السلطات السورية باتت تمسك بأوراق المواجهة مع تركيا بشكل أكثر إحكاما، نتيجة عوامل مستجدة عديدة، أبرزها ورقة إدلب
يكاد المشهد الناشئ في شمال سوريا وشمالها الشرقي أن يلامس حدود الغموض والإبهام بسبب التقلبات التي عاشتها تلك المنطقة نتيجة التداخل بين مصالح اللاعبين في تلك البقعة الجغرافية من سوريا، سواء أكانوا محليين أم إقليميين أم دوليين، فالشمال السوري والشمال الشرقي من البلاد يكتنز ذخيرة اقتصادية متنوعة المصادر المائية والنفطية والزراعية والثروة الحيوانية، كما سكنتها ولا تزال شعوب وأعراق آشورية وكلدانية وسريانية وأكراد، وتعددت مذاهب وديانات سكانها بين يهودية ومسيحية وإسلامية، علاوة على الموقع الجغرافي مع العراق شرقا، وتركيا شمالا، ولعل مجمل هذه المواصفات شكلت أبرز العوامل لتكون المنطقة محط أنظار قوى إقليمية ومحلية للاستئثار بها، باعتبارها قاعدة انطلاق نحو مشاريع وطموحات انفصالية أحيانا وتوسعية إقليمية أحيانا أخرى.
مع بداية الأحداث في سوريا قبل أكثر من ثمانية أعوام بدا جليا أن القوى السياسية الكردية في تلك المنطقة من سوريا ومحيطها في شمال العراق وجنوب شرق تركيا، التقطت لحظة مفصلية تعصف بالبلاد، واعتقدت -كما يبدو- أنها ربما تشكل المنعطف الأهم في سياق المسألة الكردية لاستكمال مشروع الدولة الكردية المنشود بعد ما تحقق لها في كردستان العراق، وتفاوتت مسارات أداء القوى السياسية الكردية في هذا الاتجاه بين من يرى التمهل قبل الانخراط في الأحداث السورية، إلى حين جلاء المشهد ومعرفة موازين القوى وأرجحية من على حساب من، وبين من رأى ضرورة التقاط اللحظة السانحة واستغلالها لمصلحة القضية الكردية كمسار تاريخي، سواء بإعلان المواقف السياسية أو الانخراط في الأعمال القتالية وفق رؤية محددة، تتلخص بتأطير جميع هذه النشاطات السياسية والعسكرية ضمن بوتقة القضية الكردية وخدمة مشروعها، بصرف النظر عن مجريات الأحداث الداخلية والخارجية وتحولاتها.
من الواضح الآن أن التأجيل -إن لم يكن طي صفحة الهجوم التركي المزمع على مواقع القوى الكردية في الشمال والشمال الشرقي السوري- يندرج ضمن سياق التفاهمات بين واشنطن وأنقرة، وتحديدا التوجه لإقامة منطقة آمنة، ما يعني تهميشا لدور موسكو المعنية مباشرة بواقع ومستقبل الوضع السوري
حينها سرى حديث عن تفاهمات بين السلطات السورية والقوى الكردية، مفادها عدم وقوف الأكراد في وجه السلطة السورية مقابل عدم استهدافهم من قبل الجيش السوري، مع منحهم بعض الحقوق الثقافية وأخرى متعلقة بإدارة محلية لمناطقهم، ويبدو أن تقاطع المصالح وقتها بين السلطات السورية والقوى الكردية شكل رافعة لمثل هذه التفاهمات، خاصة بعد إعلان أنقرة موقفها الرسمي المناهض للرئيس السوري وسلطته، فالسلطة السورية وجدت في إطلاق يد الأكراد في المناطق المتاخمة للحدود التركية أداة تهديد وإقلاق لأنقرة وابتزاز لاحق لها، والأكراد اقتنصوا لحظة ضعف الدولة السورية وراحوا يوسعون دائرة حضورهم ويبسطونها بقوة السلاح في جميع المناطق التي كان لهم فيها وجود، وحتى في بعض المناطق القريبة من حدود وجودهم.
لكن المنعطف الأكثر أهمية تجلى في التنسيق الأمريكي مع القوى الكردية بشكل علني وواضح تحت يافطة محاربة الإرهاب، خصوصا تنظيم داعش، ووصل الأمر إلى حد إدارة واشنطن ظهرها لحليفتها التقليدية الأطلسية تركيا ومنعها من المشاركة في أي عمليات قتالية إلى جانب الأكراد ضد داعش، خاصة في محافظة الرقة السورية التي استولى عليها التنظيم آنذاك بشكل كامل، وكذلك مناطق شرق الفرات التابعة لمحافظة دير الزور برمتها، الأمر الذي أفصح عن استراتيجية الإدارة الأمريكية في سوريا، والتي قامت على ركيزتين اثنتين، استنادا إلى قاعدة التخادم المتبادل مع الأكراد.
الركيزة الأولى تمثلت في مداعبة واشنطن أحلام القوى الكردية بوجود فرصة سانحة على أنقاض سوريا التي تعصف بها حرب دموية لإنشاء وإقامة إقليم غرب كردستان، وبذلك حققت واشنطن هدفين. الأول: بلورة قوة مجتمعية عسكرية وسياسية كردية في بقعة جغرافية سورية تحوز أهم مقومات وجودها واستقلالها. والهدف الثاني: تسليح وتدريب هذه القوات الكردية وتوفير الغطاء الأمريكي السياسي والعسكري لها في مواجهة ليس الدولة السورية فحسب، بل القوى الإقليمية المناهضة لها كتركيا وإيران.
أما الركيزة الثانية فتبلورت من قبل الأكراد على قاعدة أساسها الانخراط في الرؤية الأمريكية لسوريا ما بعد الحرب، والاستفادة القصوى من الدعم الأمريكي عسكريا وسياسيا، وتنظيما اجتماعيا وإداريا.
على الرغم من التناقض الأيديولوجي الصارخ بين الحليفين الكردي والأمريكي إلا أن الضحية المفترضة -سوريا بوضعها المترنح- بلورت قواسم مشتركة بينهما، بدت لاحقا أنها ظرفية مرتبطة بتكتيك أمريكي لإدارة الملف السوري وليس للانزلاق في مستنقعاته، وهذا ما فسره حينها إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن قرار انسحاب أمريكي من سوريا لم تتضح معالم تنفيذه وآلياته ومداه، سوى أنه ترك حلفاء الأمس من القوى الكردية على الأرض السورية نهبا لتصورات مستقبل يلفه الغموض.
من الطبيعي أن ينزل إعلان ترامب حينذاك بردا وسلاما على كل من دمشق وأنقرة العدوين اللدودين على مدى سنوات الحرب، فكلتاهما تواجهان مشكلة وطنية بطابع قومي عرقي يمثل بشكل أو بآخر تهديدا لسيادة ووحدة البلاد، لكن بالنسبة لدمشق كان الأكراد بتكوينهم الأيديولوجي -اليساري تحديدا- على مر عقود من الزمن حلفاء للسلطة السورية في مواجهة تركيا الأطلسية، أما أنقرة فهي تخوض حربا مع أكرادها منذ أكثر من ثلث قرن، واليوم يجد الطرفان التركي والسوري نفسيهما في مواجهة مع المشروع ذاته ولكن في سياق متناقض، خاصة بعد الإعلان عن تفاهمات أمريكية تركية لإقامة منطقة آمنة.
من الواضح الآن أن التأجيل -إن لم يكن طي صفحة الهجوم التركي المزمع على مواقع القوى الكردية في الشمال والشمال الشرقي السوري- يندرج ضمن سياق التفاهمات بين واشنطن وأنقرة، وتحديدا التوجه لإقامة منطقة آمنة، ما يعني تهميشا لدور موسكو المعنية مباشرة بواقع ومستقبل الوضع السوري من جهة، ويفرض من جهة أخرى على السلطة السورية مقاربة جديدة للوضع الناشئ على المستويين السياسي والميداني، وتبعا لهذه المقاربة السورية المحتملة يبرز سؤال محوري: كيف ستستثمر دمشق هذا الواقع الناشئ في المرحلة الراهنة ومستقبلا؟
ليس من شك في أن السلطات السورية باتت تمسك بأوراق المواجهة مع تركيا بشكل أكثر إحكاما نتيجة عوامل مستجدة عديدة، أبرزها ورقة إدلب، والإصرار على إنهاء وجود جبهة النصرة المدعومة تركيا فيها، وإعادة المدينة إلى سيادة الدولة السورية، إضافة إلى الورقة الكردية، وليس أقلها البعد الروسي في ترتيب أوراق دمشق مع اللاعبين الإقليميين والدوليين، ولعل ذلك من شأنه منح دمشق هامش مناورة أوسع مع النقيضين التركي والكردي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة