صراع الهويات بأيرلندا الشمالية يوقظ ذكرى "الجمعة العظيمة" ويهدد وحدة بريطانيا
يبدو أن اتفاق "الجمعة العظيمة" في أيرلندا الشمالية لم يقض على الهويات والانتماءات الطائفية، لكنه أبعدها مؤقتا عن العمل السياسي.
فقد أذكت التطورات الأخيرة في أيرلندا الشمالية رياح الفرقة مجددا بين أبناء الوطن، وبدا أن اتفاق "الجمعة العظيمة" الذي أرسى السلام منذ عام 1998.
وأعادت الأزمات الأخيرة إحياء هذه النعرات التي أدت لمقتل أكثر من 3500 شخص خلال ثلاثة عقود من حروب بين الموالين للعرش البريطاني (النقابيين البروتستانت) والجمهوريين (القوميين الكاثوليك).
لعنة "بريكست"
ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية فإن الفرقة بدأت العودة مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فيما يعرف باتفاق "بريكست" الذي أدي إلى تعطيل التوازن السياسي والاقتصادي الهش في أيرلندا الشمالية، في حين تبدو الحكومة البريطانية مصممة على إبقاء عهد "المشاكل" (في إشارة إلى الحرب الأهلية السابقة) وإرث العنف الطائفي في الماضي بحزم.
ووصف التقرير طقسين حزينين حدثا بالتزامن تقريبا على جانبي نهر فويل، الذي يقسم مدينة ديري، ثاني أكبر مدينة في أيرلندا الشمالية، عكس ماضي المدينة البائس ومستقبلها غير المستقر.
فقد نظم البعض وقفة احتجاجية ضد الحكومة البريطانية، التي اتهموها بإغلاق التحقيقات في عمليات القتل خلال فترة الاضطرابات. وفى اليوم التالي سارت فرقة موسيقية في الحي البروتستانتي في ووترسايد تحتفل بذكرى مقتل قائد عسكري بارز.
تشريع مثير للجدل
وقال التقرير إن قضايا الهوية تفاقمت أيضًا بسبب تشريع اقترحه رئيس الوزراء بوريس جونسون أثار الغضب بين الأيرلنديين؛ إذ يهدف إلى حفظ وإنهاء قضايا قتل الآلاف، التي لم يتم حلها خلال العقود الثلاثة من الاضطرابات، ويمنح الحصانة من الملاحقة القضائية للأشخاص الذين يتعاونون في التحقيقات التي تجريها لجنة مستقلة جديدة للمصالحة واستعادة المعلومات.
لكن هذا يعني عدم وجود تحقيقات جنائية جديدة تتعلق بعمليات القتل، والتي قوبلت بمعارضة شرسة من عائلات الضحايا من الجانبين، التي تخشى الحرمان من العدالة، لا سيما في الحالات التي تواطأت فيها قوات الأمن البريطانية أو الشرطة مع عصابات شبه عسكرية.
من ناحية أخرى، يثير اتفاق بريكست حفيظة الأيرلنديين الذين يريدون أن يظلوا جزءا من الاتحاد الأوروبي.
فقد أثار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المشاعر في العديد من الأحياء الموالية والنقابية - التي تفضل الجزء المتبقي من المملكة المتحدة - لأنه استلزم ترتيبات تجارية معقدة مع الاتحاد الأوروبي.
ويقول النقابيون إنها دق إسفين بين أيرلندا الشمالية وإنجلترا واسكتلندا وويلز، ذلك لأن قضية الهوية عميقة الجذور.، فيما سعت لندن للتعامل مع مخاوف دبلن، فعرضت ما يسمى ببروتوكول إيرلندا الشمالية، وهو يضع قواعد لإبقاء الحدود مفتوحة مع إيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي وخالية من المراكز الجمركية.
تمرد ضد لندن
ولا تعنى الصحوات الطائفية تلك عودة إلى مرحلة العنف بالضرورة، لكنها تنذر بالفعل بمرحلة من التمرد السياسي على لندن.
ووفقا لتقرير نشرته وكالة الأنباء الفرنسية، فقد خيمت الضبابية على إيرلندا الشمالية في فبراير/ شباط، بعد استقالة رئيس الوزراء الوحدوي الديمقراطي بول جيفان اعتراضا على وضعية المقاطعة في مرحلة ما بعد بريكست.
وفي الانتخابات الأخيرة، حقق حزب "شين فين" الجناح السياسي السابق للجيش الجمهوري الأيرلندي أول فوز انتخابي له في تاريخ أيرلندا الشمالية، واعتبر هذا الفوز "لحظة حاسمة" في هذه المنطقة من أوروبا التي تسيطر عليها بريطانيا.
واعتبرت زعيمة الحزب ميشيل أونيل أن بلادها بصدد دخول "حقبة جديدة" داعية إلى "نقاش صادق" حول توحيد الإقليم مع جمهورية أيرلندا (الأوروبية).
وقد لا يغير انتصار شين فين من وضع المنطقة لأن الاستفتاء المطلوب لمغادرة بريطانيا يخضع لتقدير الحكومة البريطانية، ومن المحتمل ألا يجري قبل عدة سنوات.
حيال ذلك قالت أستاذة العلوم السياسية في جامعة كوينز في بلفاست كايتي هايوارد إن "نجاح شين فين مردّه ضعف النزعة الاتحادية في وقتٍ تشهد المملكة المتحدة تغييرا حقيقيا في مرحلة ما بعد بريكست".
اسكتلندا نحو الانفصال
ويمثل ذلك تهديدا إضافيا لكتلة المملكة المتحدة التي تواجه أيضا شبح انفصال اسكتلندا. فقبل أسابيع، أطلقت الوزيرة الأولى في اسكتلندا نيكولا ستورجون، حملتها الجديدة للمطالبة بإجراء استفتاء شعبي جديد من أجل انفصال بلدها عن المملكة المتحدة والتحاقها بالركب الأوروبي،
وأكدت الوزيرة على أن ذلك من شأنه أن يجعل اسكتلندا أكثر عدلاً وثراء وسعادةً، قائلة: "بعد كل ما حدث؛ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، و (سياسات) بوريس جونسون، حان الوقت لتبني رؤية مختلفة وأفضل".
وأعلنت قبل أيام عن نيتها عقد الاستفتاء في 19 أكتوبر/ تشرين أول 2023.
لكن المطالبات لا تقتصر فقط على الوطن الأم في المملكة المتحدة، بل إن بعض المناطق التابعة للتاج البريطاني لم تخف رغبتها في الاستقلال، وفى مقدمتها أستراليا وجامايكا. وهذه التطورات تثير أسئلة تتعلق بشكل المملكة المتحدة في المستقبل.