تعكس حالة المظاهرات الكبيرة في شوارع إسرائيل بسبب ممارسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومسعاه لتعديل النظام القضائي وصلاحيات المحكمة العليا
والذي تم تأجيله في الكنيست لمدة 30 يوما، حالة الشد والجذب في المجتمع، وتنامي حالة الغضب الكبرى في شرائح عدة في المجتمع الإسرائيلي، وما آلت إليه الدولة من أزمة عميقة باتت تهدد استمرار التماسك في المجتمع، وانصهاره في بوتقة واحدة مثلما كان يخطط مؤسس الدولة ديفيد بن غوريون، والذي كان يحلم بدولة متماسكة قوية تستطيع أن تقف في مواجهة الأغيار .
1. يقف رئيس الوزراء الإسرائيلي في دائرة الاتهام بأنه يريد تقييد دور المحكمة العليا وتقليص دورها، والواقع أنه يريد أن يغلق باب الاتهامات الموجهة له في عدة قضايا استمرت محاكمته فيها سنوات طويلة دون حسم، والرجل يريد تصفية مشاكله والانتباه للحكم، خاصة أنه بات زعيم أو ملك إسرائيل، وفي ظل غياب مزعج للساسة الذين قامت الدولة على أكتافهم، ولم يعد هناك وجود لهذا الجيل من السياسيين.
2. أصبح القادة العسكريون في منتهى الضعف، وغاب الحضور، أو التاريخ العسكري اللامع، والذي كان يزهو به رجال مثل شارون وايتان وباريف وعشرات غيرهما، أما اليوم فحتى رؤساء الأركان الكبار كل تاريخهم يظل في مواجهات قطاع غزة، ولم يدخلوا حروباً حقيقية، بل مثلما كان يردد القادة السياسيون، إنهم يحاربون فصائل وميلشيات.
ولعل هذا الأمر دفع رئيس الوزراء نتنياهو للصعود، والاستمرار في ظل رهانات الجمهور الإسرائيلي على أنه الأفضل وسط كل الساسة الموجودين، بدليل أن الجمهور الإسرائيلي سرعان ما لفظ نفتالي بينت ثم يائير لابيد، وكلاهما تولى موقع رئاسة الوزراء.
وفي المقابل، فإن المعارضة الراهنة بكل قياداتها أضعف من أن تواجه نتنياهو في هذا الوقت، بل إن الجمهور الموجود في شوارع إسرائيل ليس كما يشاع أنه جمهور يساري، فهذا الأمر غير صحيح بل هو ممثل لشرائح عليا في المجتمع؛ من عسكريين سابقين وعلماء وأكاديميين واقتصاديين ورجال مال وأعمال وغيرهم، وهؤلاء نزلوا ليسوا احتجاجاً على المس بالقضاء وصلاحيات المحكمة العليا، بل لأن نتنياهو في طريقه لسن تشريعات جديدة بهدف السيطرة على مفاصل الدول وأجهزتها ومؤسساتها.
3. ولهذا كانت التحذيرات من أن الإدارة الأمريكية لن تقدم دعما لإسرائيل، وأنها لن تتعامل مع الحكومة الراهنة ورموزها الحالية وستفضل التعامل مع رموز الليكود كبديل مؤقت، وبرغم الجهد السياسي والدبلوماسي الذي بذله الدبلوماسيون الأمريكيون في القدس وتل أبيب ومسعاهم لتقريب وجهات النظر بين المؤيدين والمعارضين لسياسات نتنياهو، والذي اضطر في النهاية للتأكيد على مصادر أمريكية معلومة، على حد قوله، تمول المظاهرات وتسعى لإسقاط الحكومة، وفشل نتنياهو في جولته الأوروبية مؤخراً في الحصول على دعم سياسي من الدول الأوروبية، وفشلت زيارته كما فشت "إيباك" كبرى المنظمات اليهودية في إتمام زيارة نتنياهو إلى واشنطن .
4. لم تعد الإشكالية في إسرائيل كيف يمكن الذهاب إلى حالة من الاستقرار؛ فالمجتمع على حافة الهاوية، والفساد يعم أرجاء الدولة، وفساد السياسيين كبير، بل يوجد كثير من الوزراء متهمون في قضايا، وبعضهم ما زال يحاكم، ولم تكن الإطاحة بالوزير آرييه درعي إلا حالة وسط حالات كبيرة في مؤسسات وقطاعات الدولة.
5. ستبقى الحكومة الحالية بائتلافها، ولن تتفكك، بل بالعكس ستمضي في إطارها رغم الدعوة إلى انتخابات جديدة لحسم الأمر، وهو خيار مستبعد، فلا أحد يريد الدخول مجدداً في دوامة الانتخابات مع يأس الجمهور الإسرائيلي في حضور عاجل لساسة جدد، فأغلب الوجوه الراهنة والموجودين معرفون، وهم مجموعة من الهواة، وأشباه السياسيين والذين تولوا مواقع كبيرة دون سابق خبرة، وأغلبهم حديث العهد بالسياسة ويتعاملون كمجموعة مستوطنين، ولا يرون سوى توجهاتهم السطحية؛ بدليل ما يردده الوزيران إيتمار بن غفير وبتسلئيل سيموتريتش، واللذان يريان في أنفسهما قادة الحركة الاستيطانية الكبرى في إسرائيل.
6. يخطط تكتل الليكود لبديل نتنياهو الذي يدرك أنه مستهدف، ومن ثم فإنه يتحرك انطلاقاً من حسابات ضيقة للغاية، والعمل دائماً على مسارات بديلة لتهيئة الأجواء السياسية والحزبية داخل التكتل وخارجه، مع التأكيد على أنه لن يقدم تنازلات سواء في ملف القضاء أو خارجه، في إشارة إلى أنه يتبع نموذج الانحناء للعاصفة لكي تمر وتهدأ الأمور، وتقل المظاهرات لبعض الوقت مع طرح مقاربات توافقية تماشياً مع ما طرحه الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ من رؤية للحوار الوطني الغائب في إسرائيل، والعمل على بناء شراكة تضم الجميع في الأغلبية والأقلية.
7. من المؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قادر على إدارة الأزمة من خلال إجراءات تصعيدية، وهو ما يعمل عليه مذكراً بدولة القانون، وليس بالحرب الأهلية وبالانضباط في المجتمع الإسرائيلي وبالديمقراطية والليبرالية كأساس للحكم، وليس الانفراد بصنع القرار كما يتصور أعداؤه، ومن ثم فإنه قادر على إنزال الجمهور الإسرائيلي واليميني إلى الشارع، وحشد أنصاره تأييدا ودعما إذا رأى أن الأجهزة الأمنية لم تعد قادرة على إسكات صوت المظاهرات.
8. هناك العديد من السيناريوهات الواقعية التي يملكها نتنياهو وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى حالة من التهدئة والاستقرار ولو الهش، وليس التصعيد الجاري، فالهدف ليس إسقاط تشريع، وإنما الحفاظ على كيان الدولة وسمعتها الدولية والتي بدت في الغرب، وكأنها "جمهورية موز" غير قادرة على تبني نموذج جيد للحكم، وبالتالي فإن أمام نتنياهو خيارات من بينها الخروج من حالة التشريعات الضيقة التي يتم إصدارها مثلما تم مؤخراً، حيث ألغى مشروع القانون قرار الانفصال عن المستوطنات "غانيم" و"كاديم" و"حوميش" و"سانور" التي تم تفكيكها عام 2005، في إطار المساعي التي تهدف إلى شرعنة بؤر استيطانية عشوائية شمالي الضفة الغربية وسن تشريعات تحظى بقبول ودعم ومساندة شعبية .
9. قد يكون من المهم في ظل ما يجري طرح فكرة إعادة تشكيل الائتلاف الحاكم، وإخراج الوزراء المثيرين للجدل، وهو ما يدور فيما وراء الكواليس داخل الليكود وخارجه، بهدف الانتقال من حالة الصراع الراهن في الشوارع والتي ستستمر في حال تشكيل الحرس الوطني الجديد، واستمرار حالة الشد والجذب داخل الحكومة الراهنة إلى إعادة إلحاق باقي مكونات الخريطة اليمنية إلى داخل الحكومة، مع التركيز على أن تكتل الليكود هو نقطة الارتكاز، مما قد يهدئ من وقع ما يجري من تطورات سلبية على أن يلي ذلك وقف تكتيكي وتدريجي للقوانين، والتشريعات محل الجدال، للعمل معا في مواجهة ما يجري، على أن تجرى صفقة حقيقية للتهدئة، وتشمل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو شخصيا، والانتقال من حالة عدم الاستقرار إلى حالة من التوافقات لبعض الوقت.
10. إن إعادة بناء توافقات جديدة في إسرائيل قد يأخذ بعض الوقت، وقد يكون هو الحل الحقيقي والمباشر لإخراج إسرائيل من الوضع الراهن، وستدفع التطورات الراهنة والمتوقعة إلى أحد الخيارين، الأول: تجميد جزئي ومرحلي وبدرجات لما يجري، وحسم بعض الخلافات بما لا يضر بسمعة إسرائيل خارجيا أو مقاطعتها خارجيا، والثاني هو التوجيه المباشر بإعادة تشكيل بناء حزبي جديد، والعمل على أرضية جديدة، وفي اتجاهات متعددة؛ حفاظا على الاستقرار في الدولة وبقائها، خاصة أن مزيداً من عدم الاستقرار سيؤدي لردود فعل حقيقية لدى الجمهور الإسرائيلي الثائر على سياسات حكومة نتنياهو، بصرف النظر عن أداء الحكومة، أو تصرفات بعض وزرائها غير المسؤولين، والحل الذي طرح داخل الليكود والذي استهدف تجميد بنود التعديلات القضائية لما بعد عطلة الكنيست سيظل إجراء مؤقتاً، خالياً من أي مضمون مع القبول الحذر بفكرة الحوار الوطني التي طرحها الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ، والتفكير جدياً بتغيير لاحق في الائتلاف الحاكم من داخل الخريطة الحزبية اليمينية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة