الهزيمة وضعت أردوغان في موقف حرج أيضا على المستوى الدولي في وقت يرتبط فيه بعلاقات متوترة مع الولايات المتحدة ودول أخرى.
"من يفزْ بانتخابات بلدية إسطنبول، يفزْ بتركيا".. رأي أجمع عليه المراقبون وأيده أردوغان وأنصاره قبل معارضيه، فعلى ضفاف مضيق البوسفور الشهير بالمدينة الأكبر في البلاد اقتصاديا وسياسيا بزغ نجم الرئيس التركي في تسعينيات القرن الماضي، وها هو الآن ومن نفس المكان يأفل نجمه ويذهب إلى شخص آخر هو أكرم إمام أوغلو، الذي يرى فيه الأتراك شخصية المنقذ من ويلات ديكتاتورية نظام لم يبالِ بما فعله ولا يكترث بما ينتظره، بعد أن خسر المناصر قبل المعارض والقاصي قبل والداني.
فأردوغان يتيقن تماما بأهمية إسطنبول عاصمة تركيا الاقتصادية، ويدرك أيضاً أن من يخسرها يفقد عرش تركيا لاسيما بعد أن لحقته أيضا خسارة في العاصمة أنقرة وإزمير، إضافة إلى إسطنبول ذات الكتلة الأكبر سكانيا وتصويتيا، والتي كانت الأكثر ألما للرئيس التركي ومنها انطلقت مسيرته السياسية، منذ توليه السلطة عام 2003، ومنذ ذلك الوقت وهو يمسك هو ورفاقه بزمام أمورها منذ نحو ربع قرن.
وكالغريق الذي ينتظر التمسك بقشة لإنقاذه، ثار نظام أروغان وهاج بعد خسارته في الانتخابات الملغاة في 31 مارس الماضي ولم يهدأ حتى أصدرت سلطاته قرارا بإعادة الانتخابات مرة أخرى في محاولة لتعويض خسارة فادحة مني بها مرشحه رئيس الحكومة السابق علي بن يلدريم، بعد قبول طعن حزبه "العدالة والتنمية" زورا وبهتانا بنتيجة الانتخابات التي فاز بها المعارض أكرم إمام أوغلو بفارق ضئيل.
ولكن لا يعلم أردوغان أن هذا الإلغاء بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير لتكشف عن وجه ديكتاتوري، دوما ما يختفي وراء خطب رنانة عن الديمقراطية والحرية وهو منها براء، فكانت الصدمة للشعب التركي ولكنها لم تكن مفاجأة في ظل سياسة أردوغان التي نسفت مسار الديمقراطية الذي يتشدق بها دوما بعد تدخل سافر من السلطات في نتيجة الانتخابات، إلا أن الثقة في تكرار الانتصار في الانتخابات المعادة كانت هي العضد لغالبية الشعب التركي في القبول بالأمر، الذي جاءت نتيجته سريعا بضربة ثانية لأردوغان وهذه المرة موجعة مؤلمة قاضية، بعد أن حقق إمام أوغلو فوزا جديدا عزز جماهيريته، ليضع خطوة ثابتة نحو القصر الجمهوري ضاربا بدكتاتورية الرئيس عرض الحائط.
فالهزيمة الانتخابية لأردوغان وحزبه في إسطنبول نزلت عليه كضربة مزدوجة لم تستهدفه هو فقط في العاصمة الاقتصادية، ولكن أيضا قاعدته الجماهيرية التي كانت شاهدة على صعوده السياسي في التسعينيات، فأردوغان كان قد ذاع صيته من هناك لا سيما بعد فوزه بمنصب عمدة المدينة، في عام 1994، لتصبح بعد ذلك بلدية إسطنبول تحت سيطرة الحزب الحاكم، منذ العام 2002 وحتى هذه الانتخابات أي أكثر من ربع قرن، ما جعل العديد يؤكد أن تلك المدينة هي مركز قوة أردوغان السياسية.
وضعت الهزيمة أردوغان في موقف حرج أيضا على المستوى الدولي في وقت يرتبط فيه بعلاقات متوترة مع الولايات المتحدة ودول أخرى، حيث يتوجه إلى اجتماع قمة مجموعة العشرين هذا الأسبوع، ويخطط لإجراء محادثات على هامش القمة مع الرئيس ترامب لمعالجة الخلافات الكثيرة بينهم
ما سبق جعل من أردوغان "وحش" يلتهم ما حوله حتى من مؤيديه، ولجأ لكل الحيل للفوز في هذه الانتخابات التي اعتبرها حربا ضروسا دافع فيها عن بقائه بكل السبل، فتارة يدعو لانتخاب حزبه بدعوى الحفاظ على استقرار تركيا وتارة أخرى يلجأ لتشويه صورة المرشح المعارض الذي كسب تأييدًا كبيرًا في الآونة الأخير.
وفي محاولة يائسة منه لدغدغة المشاعر لعب أردوغان كالعادة على وتر الإخوان والإسلام عقب وفاة محمد مرسي وردد قائلا: "من ينتخب أوغلو كأنه ينتخب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي" في محاولة بائسة لحصد أصوات الناخبين ناسيا متناسيا أن سياسته تناقض ما ينطق به لسانه وما يخفيه في صدره، لينقلب السحر على الساحر ويخرج الأتراك في إسطنبول وينتخبوا إمام أوغلو ويصفعوا أردوغان.
ما وصل إليه أردوغان وحزبه العدالة والتنمية ما هو إلا نتيجة منطقية لما اعتراه من غرور جنح به إلى دكتاتورية جعلت من تركيا منبعا للتطرف ومرفدا للإرهاب وطاردة للاستثمار، إضافة إلى تراجع حقوق الإنسان بعد حملات القمع والتضييق والاعتقالات بحق عشرات الآلاف من معارضيه بذريعة محاولة الانقلاب المزعومة في يوليو 2016، حيث شرد عائلاتهم وأطاح بعوائلهم من وظائفهم، ما جعلهم عراة تتلقفهم ظروف الحياة.
ولذلك فإن من المتوقع أن تثبت المعارضة جدارتها وتكسب ثقة الناخب التركي أكثر وأكثر على حساب الحزب الحاكم، وهو ما يمهد لمشهد سياسي جديد في تركيا يزول معه نظام أردوغان عن المشهد شيئا فشيئا، خصوصا مع التجاوزات التي يقوم بها في الانتخابات وتقديم كثير من الطعون أمام القضاء وانكشاف العديد من ألاعيبه.
كما وضعت الهزيمة أردوغان في موقف حرج أيضا على المستوى الدولي في وقت يرتبط فيه بعلاقات متوترة مع الولايات المتحدة ودول أخرى، حيث يتوجه إلى اجتماع قمة مجموعة العشرين هذا الأسبوع، ويخطط لإجراء محادثات على هامش القمة مع الرئيس ترامب لمعالجة الخلافات الكثيرة بينهم، لكن يبدو أن هذه المرة سيكون الوضع مختلفا، ولن يكون ثمة ظهير شعبي لأردوغان يمكنه من التحدث بقوة، إذ يلاحقه الخزي داخليا وخارجيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة