السلاح الأيديولوجي هو أخطر أسلحة الدمار الشامل في القرن الحادي والعشرين.. هو المعادِل للسلاح البيولوجي من دون صخب أو ضجيج.
قتلتْ القنبلة النووية في هيروشيما (140) ألف شخص، وقتلتْ الأوضاع في العراق (2) مليون شخص. توقّف العالم بكامله أمام كارثة هيروشيما، ولا يزال التاريخ يتوقّف كل يوم أمام أعداد الضحايا وصور الإنسان والمكان. لكن أحدًا لم يتوقّف أمام ضحايا تفوق أعدادهم (14) ضعف ضحايا هيروشيما. ثمّة كارثة أصابتْ الإنسانية بالرعب، وانطلقت على أثرها معاهدات وحملات، وتأسّست مبادرات ومنظمات. وثمّة كارثة أخرى لم تعد تمثِّل العناوين الأولى في نشرات الأخبار.
أستطيع القول -وبثبات علمي مسؤول- إن السلاح الأيديولوجي هو أخطر أسلحة الدمار الشامل في القرن الحادي والعشرين.. هو المعادِل للسلاح البيولوجي من دون صخب أو ضجيج. البكتيريا والفيروسات التي تمثِّل عماد السلاح البيولوجي.. جرى تعويضها ببكتيريا فكرية وفيروسات أيديولوجية لتمثِّل عماد السلاح الأيديولوجي. يتحدّث الغرب عن مخاطر السلاح البيولوجي، ولكن العالم الإسلامي يواجِه يوميًا استخدامات السلاح الأيديولوجي.
يحتاج السلاح الأيديولوجي إلى سلاح مضاد.. إلى تبديد الأوهام التي يروجها المتطرفون الجهلاء، وإلى استعادة العقل وإعادة بناء القوة الناعمة. إن الثقافة هي أساس السلاح المضاد، والمعرفة هي قاعدة الانطلاق لاستعادة الأمل. العلم هو الحل.
عرفت الحروب السلاح البيولوجي منذ عدة قرون، حيث كان يجري تسميم الأنهار وآبار المياه.. وفي الحرب العالمية الأولى جرى استخدام البكتيريا السامّة لنشر الأمراض والأوبئة، وإبادة أكبر عدد ممكن من الأعداء. وفي الحرب العالمية الثانية، استخدمت ألمانيا النازيّة أسلحة بيولوجية أكثر تقدما.. كما استخدمت قوات المحور الأخرى "قنابل بيولوجية" قتلت مئات الآلاف من الناس.
إن السلاح البيولوجي هو سلاح مروع، وطبقا لحسابات مؤرخين.. فإن ضحايا مرض الجدري يفوق إجمالي ضحايا الحروب العالمية مجتمعة. وعلى الرغم من القضاء على فيروس الجدري في العالم الآن فإنَّ الفيروس لا يزال محفوظًا في مختبرات القوى العظمى.
بعد مضي قرابة نصف قرن على معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية.. عادت موسكو وواشنطن تتبادلان الاتهامات بشأن انتهاك الاتفاقية، وتطوير أسلحة بيولوجية مروّعة.
ما أودُّ أنْ ألفتَ النظر إليه.. هو أن السلاح الأيديولوجي يجري تطويره هو الآخر. وأن هناك مختبرات في أجهزة استخبارات عديدة تعمل على تطوير السلاح الأيديولوجي.. حتى تصبح الأفكار سلاحا للإبادة لا طريقا للحوار.
السلاح الأيديولوجي -كما أراه- هو استخدام الأفكار المتطرفة من أجل إبادة أعداد كبيرة من الخصوم بدعوى الخروج على قواعد العقيدة. وهو سلاح جرى الانتباه له في زمن الاستعمار الأوروبي ثم طوّره الزعيم النازي أدولف هتلر.. ثم تلقته قوى الغرب المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. كانت قاعدة "فرِّق تسد" التي تقوم على زرع الانقسام الديني المذهبي، وخلق معادلة صفرية بين قوى وفئات المجتمع.. هي أساس السلاح الأيديولوجي الإمبريالي. وقد نجح كثيرًا في مساعدة دول استعمارية صغيرة في استعمار دول أخرى كبيرة.
كانت الفتنة إذن هي أول أنواع السلاح الأيديولوجي استخدامًا، وكانت هي وراء ضعف شعوب ونخب المستعمرات إزاء قوى الغزو والاحتلال. ثم كانت الانتباهة إلى الأهمية القصوى لسلاح التطرف الديني في تدمير الأمة الإسلامية من دون قتالٍ خارجي.. نصرٌ بلا حرب.
يشير مؤلف كتاب "مسجد في ميونخ" إلى دور النازيين في تطوير فكرة استخدام هذا السلاح.. وذلك باستخدام الإسلاميين المتطرفين كطابور خامس يعمل مع الخارج لأجل تخريب الدولة وإنهاء النظام. وكذلك استخدام متطرّفي الأقليات المسلمة في الدول المعادية كطابور خامس يحقِّق الغاية ذاتها.
انهزم هتلر، ولم تنهزم الفكرة. لقد انتقلت من برلين إلى عواصم أخرى. وجرى تطوير السلاح الأيديولوجي ليصبح بعد عقود من الحرب العالمية.. أمضى الأسلحة وأكثرها فتكًا. نجح السلاح الأيديولوجي -أي استخدام المتطرفين المسلمين كسلاح لهزيمة الإسلام والمسلمين- في إلحاق الأذى بكل الدول الإسلامية تقريبًا.. حيث لا تكاد تنجو دولة إسلامية واحدة من براثن الإرهاب ومأساة الغلوّ والتطرف.
لقد أدت الحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان إلى نقلةٍ تاريخية في سطوة الإرهاب وتصاعد أعداد الضحايا. وحسب دراسة لمعهد "واتسون للشؤون الدولية" في جامعة براون الأمريكية.. فإنَّ أكثر من نصف مليون قُتلوا في العراق وأفغانستان وباكستان خلال عشر سنوات: ربع مليون في العراق، وربع مليون آخر في أفغانستان وباكستان.
أما دورية "لانسيت" الطبية فقد نشرت دراسة أكثر توثيقًا. قدّرت فيها أعداد القتلى العراقيين من عام الغزو 2003 حتى عام 2006 بأكثر من (650) ألف قتيل.. منهم (50) ألفًا نتيجة أعمال الغزو المباشرة، و(600) ألف قتيل جرّاء أعمال العنف التي أعقبت الغزو. لكنّ شركة الاستطلاع البريطانية "أوبنيون ريسيرش بيزنس" التي قامت بدراسة ميدانية تفصيلية.. فقد قدّرت أعداد الضحايا من الوافدين منذ عام الغزو 2003 حتى عام 2007 بنحو مليون و33 ألف قتيل!
وتذهب مراكز دراسات إلى أن الأعداد الحقيقية هي أكبر من ذلك بكثير.. وحسب مقدمة البحث الذي نشرته جامعة براون فإنّنا "لن نعرف أبدًا الحصيلة الإجمالية المباشرة في مثل هذه الحروب.. لقد قُتل عشرات الآلاف في عمليات استعادة الموصل ومدن أخرى من داعش.. ولكن جثامين هؤلاء لم تتم استعادتها".
إن الإحصاءات لا تشمل أيضًا أولئك الذين قتلوا بشكل غير مباشر. وإذا ما تم أخذ ذلك في الاعتبار فإن أرقام بعض المؤسسات بشأن تجاوز إجمالي أعداد الضحايا من العراقيين منذ الغزو المليوني قتيل.. تعد رقمًا منطقيًّا ومقبولًا.
وقد نشرت الصحف في عام 2019 سعي بقايا داعش إلى الحصول على أسلحة بيولوجية في مناطق متفرقة من العالم الإسلامي. ستكون المأساة حينئذ من دون حدود.. السلاح البيولوجي والسلاح الأيديولوجي معًا. الأمر صادم ومخيف إلى الحدِّ الذي يدفع إلى عدم التفكير فيه.
إن السلاح الأيديولوجي هو أخطر ما يواجه بلادنا وأمّتنا.. أن تصبح مجتمعات المسلمين فرقًا وجماعات.. بعضها لبعضٍ عدوّ، وكل جماعةٍ تلعن أختها.
لا يحتاج العالم الإسلامي إلى أكثر من ذلك ليشهد خريف الحياة.. هزيمة بلا حرب. وقتها لن يمكن إحصاء أعداد الضحايا لذلك السلاح الأيديولوجي اللعين.. وسوف نردِّد مع الجنرال "تومي فرانكس" قائد حملة غزو العراق حين سأله الصحفيون عن أعداد القتلى: نحن لا نعدّ الجثث.
يحتاج السلاح الأيديولوجي إلى سلاحٍ مضادّ.. إلى تبديد الأوهام التي يروّجها المتطرفون الجهلاء، وإلى استعادة العقل وإعادة بناء القوة الناعمة. إن الثقافة هي أساس السلاح المضاد، والمعرفة هي قاعدة الانطلاق لاستعادة الأمل. العلم هو الحل.
نقلاً عن "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة