التريث إذا في قرار زيادة الإنتاج هو قرار حكيم، خاصة أن المعيار الذي تتبناه أطراف "أوبك+" حول مستوى المخزون واضح ومعلن.
"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" ربما تكون المقولة التي تفسر موقف دول منظمة الأوبك، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، ردا على الدعوات المتكررة لرفع مستوى إنتاج النفط بعد أن قررت الإدارة الأمريكية فرض حظر كامل على صادرات النفط الإيراني بداية من الشهر المقبل.
اللدغة الأولى التي نشير إليها هي تلك التي حدثت حينما قررت الإدارة الأمريكية في 8 مايو/أيار الماضي الخروج من الاتفاق النووي مع إيران وإعادة فرض حظر على صادرات إيران النفطية وحددت موعدا لهذا الحظر بعد ستة أشهر أي في شهر نوفمبر 2018. وبناء على هذا القرار سارعت الدول الأعضاء فيما يسمى "اتفاق أوبك+" في شهر يونيو إلى زيادة مستويات إنتاجها. وقد ارتفعت الأسعار لتبلغ الذروة يوم 4 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عندما سجل برميل خام برنت أكثر من 86 دولارا للبرميل، وذلك مع اقتراب تاريخ فرض العقوبات في 5 نوفمبر/تشرين الثاني. إلا أن الإدارة الأمريكية فاجأت الجميع بمنح ثماني دول تعد من أهم المستوردين للنفط الإيراني إعفاءً من العقوبات وسمحت لها بالاستمرار في شراء النفط الإيراني لمدة ستة أشهر تنتهي يوم 2 مايو/أيار المقبل. وقد بررت الإدارة الأمريكية وقتها هذا القرار بأنها لا ترغب في ارتفاع كبير في الأسعار بشكل مفاجئ نتيجة لانخفاض كبير في المعروض. وقد ترتب على هذا القرار الأمريكي المفاجئ حدوث تدهور مستمر في سعر برميل النفط حتى بلغ أقل سعر له يوم 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي عندما سجل برميل برنت 50.57 دولار وبانخفاض تزيد نسبته على 41% عن سعر الذروة المسجل في أكتوبر. وهو ما دفع أطراف "أوبك+" إلى الاتفاق من جديد على خفض مستوى إنتاجها بمقدار 1.2 مليون برميل يوميا بداية من يناير/كانون الثاني 2019، وهو ما عمل على ارتفاع الأسعار مرة أخرى.
التريث إذا في قرار زيادة الإنتاج هو قرار حكيم، خاصة أن المعيار الذي تتبناه أطراف "أوبك+" حول مستوى المخزون واضح ومعلن للكافة وهو ما يمكن التثبت منه. ومع الوضع في الاعتبار أن هناك طاقة إنتاجية فائضة قد تزيد على 3 ملايين برميل لدى الدول المصدرة
يعد رد بلدان الخليج والسعودية على حث البلدان المستهلكة للدول المصدرة للنفط على زيادة الإنتاج، وهو الرد المتمثل في التأكيد على استعداد هذه البلدان لزيادة الإنتاج فورا إذا ما توفر الطلب، أي في حال شكوى السوق من نقص فعلي، ردا منطقيا وعاقلا ويستفيد من تجارب التاريخ القريب. ويعزز من منطقية هذا الرد تصريح وزير النفط السعودي من أن الدول المصدرة لا تستهدف سعرا معينا، بل هي تسعى إلى استقرار السوق بحيث تتوفر إمدادات كافية وتتحقق مصلحة الجميع في الوقت ذاته. والمعيار الرئيسي الذي يتبناه أطراف أوبك+ لتحقق الاستقرار في السوق هو إبقاء مخزونات النفط التجارية عند متوسط هذه المخزونات خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. والواقع أنه وفقا لهذا المعيار لا يوجد حتى الآن أي نقص فعلي في الأسواق، والدليل على ذلك هو زيادة ملموسة في المخزون الأمريكي بحيث بلغ يوم الجمعة الماضي 19 أبريل/نيسان 460.6 مليون برميل وهو عند مستوى متوسط المخزون خلال خمسة أعوام. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذا المخزون يزيد على مستواه عند التاريخ نفسه من العام الماضي بمقدار 30.9 مليون برميل. كما من المهم الإشارة إلى أن إجمالي المخزون الأمريكي من الخام والمنتجات (مع استبعاد المخزون الاستراتيجي) ارتفع يوم الجمعة الماضي بمقدار 8.8 مليون برميل ليبلغ 1244.6 مليون برميل. ويزيد هذا المخزون الآن على مستواه في الوقت نفسه من العام الماضي بمقدار 62.2 مليون برميل. وتشير جميع هذه البيانات إلى أنه ليس هناك ما يدعو للمسارعة فعلا إلى رفع مستوى الإنتاج. ويكفي الدول المستهلكة أن تكون مطمئنة إلى أنه يتوفر لدى البلدان المصدرة، لا سيما في الخليج العربي، طاقة إنتاجية فائضة كبيرة يمكنها أن توفر للسوق ما يحتاج إليه فورا، خاصة أن صادرات النفط الإيرانية تقلصت بالفعل خلال الأشهر الأخيرة، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن هذه الصادرات لا تتجاوز خلال الشهر الحالي نحو 900 ألف برميل يوميا.
أيضا مما يدعو للحذر والتأني ما يراه الكثير من المراقبين من أن هناك بعض الدول التي يمكن أن تقدم على تحدي قرار الإدارة الأمريكية وتستمر في استيراد النفط الإيراني. فقد أعلنت بعض الدول الأوروبية والصين اعتراضها على القرار. بل إن تركيا تحدت القرار الأمريكي بشكل علني ورفضت قرار فرض العقوبات الأحادية، وصرحت بأنها ستستمر في استيراد النفط من إيران. ورغم الموقف الأمريكي القوي المعلن بأنه سيتم فرض عقوبات حتى على حلفائها، إلا أن طهران ستستطيع على أقل تقدير، وكما فعلت عندما فرضت عليها العقوبات بين عامي 2012 و2015، بيع جزء من نفطها خلسة مع منحها سعراً أقل من السعر المعروض. أي أن الصادرات الإيرانية على الأغلب لن تبلغ صفرا كما ترغب في ذلك الإدارة الأمريكية.
وتظل هناك أيضا مخاطر من انخفاض مستوى الطلب نتيجة للتوقعات المتزايدة بتباطؤ أكثر في النشاط الاقتصادي في عدد من الدول المستهلكة الرئيسية للنفط. وتبين التقديرات الأخيرة لصندوق النقد الدولي والصادرة في الشهر الحالي أن معدل النمو الاقتصادي العالمي سينخفض إلى 3.3% بدلا من 3.5% كان الصندوق قد توقعها في وقت سابق. وتشير التطورات الاقتصادية خاصة في البلدان الأوروبية إلى تباطؤ كبير في النشاط الاقتصادي في عدد من الدول، وعلى رأسها ألمانيا التي تعد أكبر اقتصاد في أوروبا. وترتب على ذلك ما تذهب إليه بعض التوقعات من أن الطلب على النفط لن يزيد هذا العام سوى بنحو 1.2 مليون برميل يوميا، مقابل أكثر من 1.6 مليون برميل كانت معدل الزيادة خلال الأعوام الأخيرة.
أضف إلى كل ما سبق أنه ينبغي ألا يتم تجاهل أن هناك كمية كبيرة من إنتاج بعض الدول محجوبة عن الأسواق لأسباب سياسية وعلى رأسها فنزويلا، وهو ما ساعد على ارتفاع الأسعار خلال الفترة الماضية. وإذا ما تم التوصل لحل للأزمة الفنزويلية، وأزمات أخرى في الدول المصدرة، فإنها ستعود لزيادة إنتاجها بسرعة وهو ما قد يؤدي إلى فائض في العرض وفي نهاية المطاف إلى تدهور شديد في الأسعار مرة أخرى.
التريث إذا في قرار زيادة الإنتاج هو قرار حكيم، خاصة أن المعيار الذي تتبناه أطراف "أوبك+" حول مستوى المخزون واضح ومعلن للكافة، وهو ما يمكن التثبت منه. ومع الوضع في الاعتبار أن هناك طاقة إنتاجية فائضة قد تزيد على 3 ملايين برميل لدى الدول المصدرة، فليس هناك ما يدعو للقلق من غياب صادرات النفط الإيراني التي كانت تتراوح بين 1 و1.5 مليون برميل يوميا خلال الشهور الأخيرة، بل وصلت إلى أقل من مليون برميل يوميا خلال الشهر الحالي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة