في ظل التطورات ستميل أسعار النفط للارتفاع، حيث نتحدث عن أسعار تبلغ ما بين 90-100 دولارا للبرميل من نوع برنت على المدى القصير.
تسود حالة من الترقب في سوق النفط العالمي لما يمكن أن يسفر عن بدء فرض المقاطعة الأمريكية على النفط الإيراني من نتائج، وبما يستبع ذلك من آثار على مستوى الأسعار، والواقع أنه إلى جانب التطورات الموضوعية المؤثرة على الأسعار إلا أنه ربما يمكن أن يكون من أهم الآثار في المدى المباشر خلال الشهرين المقبلين ارتفاع حمى المضاربة على أسعار النفط، إذ كلما زادت حالة عدم اليقين في الأسواق بشأن مستقبل العرض والطلب كلما زادت حدة التباين في توقع الأسعار، وهو ما قد يجذب إلى دائرة المضاربة العديد من المؤسسات غير الخبيرة في هذا المجال، طمعا في مستوى الأرباح التي يمكن أن تحققها.
إذا ما غاب عن السوق مليون برميل بعد شهر نوفمبر المقبل سيصل سعر برميل برنت إلى نحو 90 دولارا، وإذا ما غاب 1.5 مليون برميل سيصل السعر إلى نحو 98 دولارا، ومع الوضع في الاعتبار الزيادة في مستوى الطلب خلال العامين الحالي والمقبل يصبح توقع سعر 120-150 دولارا للبرميل منطقيا
والمشكلة أن اشتعال حمى المضاربة ذاتها لا يكون بمعزل عن الأرباح التي قد يحققها هؤلاء "المتطفلون" على سوق النفط، إذ يهدف هؤلاء لإشاعة حالة من "التفكير بالتمني" للوصول إلى ما يعرف بـ"النبوءة التي تحقق ذاتها"، أي بقول آخر فهذه المؤسسات لا تعلن عن توقعاتها لمستقبل الأسعار نتيجة دراسة موضوعية وبتجرد، بل إنها في الحقيقة تحاول إشاعة هذه التوقعات لأنها تجني من وراء ذلك أرباحا هائلة.
ولأجل التعامل بإنصاف فعلي مع المضاربة يجب التفرقة بشكل عام بين المضاربين الخبراء بالمجال الذين يلعبون دورا مفيدا في الأحوال العادية، حيث يعد تدخلهم في الأسواق ملطفا إلى حد كبير من حدة الارتفاعات والانخفاضات في الأسعار، إذ أن المؤسسات التي تقوم بالمضاربة تفعل ذلك من أجل الربح القائم على توقع قد يصيب وقد يخيب باتجاه الأسعار في المستقبل، ففي حال ارتفاع الأسعار فجأة لظروف ألمت مثلا بكمية العرض المتاح نجد أنه عند بلوغ هذا الارتفاع مستوى معينا يتدخل المضاربون ببيع ما في حوزتهم من عقود نفطية للاستفادة من ارتفاع الأسعار، وهو ما يدفع نحو كبح هذا الارتفاع، والعكس أيضا صحيح، ففي حال انخفاض الأسعار يقوم المضاربون بالتدخل عند مستوى معين للأسعار بالشراء مع ترجيحهم أن الأسعار لن تنخفض عن هذا المستوى، وهو ما يعمل على ترجيح كفة التوقف الفعلي لتدهور الأسعار، ويتم عادة تصنيف المتعاملين في الأسواق المستقبلية للسلع، ومن بينها النفط، على أساس التمييز بين "المتعاملين التجاريين" أي هؤلاء الذين يقومون بالبيع أو الشراء بصفتهم منتجين أو مستهلكين للسلعة، وبين "المؤسسات غير التجارية" أي تلك التي تقوم بالبيع أو الشراء من أجل تحقيق أرباح قائمة على توقع مرجح لاتجاه الأسعار في المستقبل، ولذلك غالبا ما يطلق على الكميات التي تتعامل فيها المؤسسات غير التجارية في السوق النفطية "البراميل الورقية"، حيث يقوم هؤلاء ببيع أو شراء ورقة هي "العقد"، والذي يذكر فيه كمية محددة من براميل النفط تسلم في تاريخ معين وعند سعر محدد، وذلك دون أن تكون لهم صلة مباشرة بإنتاج أو استخدام النفط.
ومن بين هذه المؤسسات غير التجارية من يكون له علاقة تاريخية بسوق السلعة، حيث يكون خبير بها وبتقلباتها، وبين من ليس له علاقة سابقة موصولة بهذه السوق، بل تجتذبه من حين لآخر الارتفاعات أو الانخفاضات الكبيرة في الأسعار وما قد يتولد عنها من أرباح، ويعمل هؤلاء "المتطفلون" على زيادة اشتعال حدة المضاربة مما يدفع لتلقلبات واسعة جدا في الأسعار لفترة من الوقت، حتى تستقر في النهاية تبعا لأوضاع العرض والطلب القائمة بالفعل في الأسواق، وآنئذ يخرج هؤلاء من السوق لعدم توفر الأرباح غير العادية التي استطاعوا جنيها لفترة من الوقت.
ونحن على أبواب حالة قريبة من ذلك الآن، إذ هناك بالفعل تفاوت واسع في توقعات أسعار النفط خلال الفترة المتبقية من هذا العام والعام المقبل. ويمكن إجمال هذا التفاوت بين قطبين رئيسيين:
القطب الأول هو الذي يرى أن أسعار النفط سترتفع ارتفاعا بالغا خلال الفترة المتبقية من هذا العام لتصل عند نهايته إلى أكثر من 90 دولارا للبرميل، وربما تصل إلى نحو 150 دولارا للبرميل في غضون عام ونصف إلى عامين. ويستند هذا التوقع إلى عدد من التطورات المتوقعة.
التطور الأول والأهم هو الكمية التي ستغيب من النفط الإيراني، حيث يتوقع هؤلاء انخفاض كمية الصادرات الإيرانية على أقل تقدير بمقدار 1.5 إلى 2 مليون برميل يوميا، وهو ما يدفع إلى زيادة الأسعار في غضون عام ونصف إلى 150 دولارا مع ضآلة مستوى الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى المنتجين الرئيسيين، ويستند هذا التوقع إلى حد ما على دراسة لبنك أوف أمريكا تقدر أن كل مليون برميل ستختفي من الأسواق ستؤدي إلى ارتفاع سعر برميل النفط من نوع برنت بمقدار 17 دولارا عن المستوى الراهن، ومن ثم إذا ما غاب عن السوق مليون برميل بعد شهر نوفمبر المقبل سيصل سعر برميل برنت إلى نحو 90 دولارا، وإذا ما غاب 1.5 مليون برميل سيصل السعر إلى نحو 98 دولارا، ومع الوضع في الاعتبار الزيادة في مستوى الطلب خلال العامين الحالي والمقبل يصبح توقع سعر 120-150 دولارا للبرميل منطقيا.
التطور الثاني هو التوصل إلى حل لمشاكل التجارة العالمية، حيث يستمر الاقتصاد العالمي في تسجيل معدلات نمو مرتفعة، وبما يترتب عل ذلك من ارتفاع في مستوى الطلب على النفط بمعدلات تناظر في حدها الأدنى ما حدث خلال الأعوام القليلة الماضية، أي بما يترواح بين 1.5-1.6 مليون برميل يوميا.
التطور الثالث يتعلق باستمرار انخفاض الاستثمارات الموجهة إلى استكشاف وتنمية واستخراج النفط من المصادر التقليدية على مدى عام على الأقل، إلى جانب تباطؤ نمو إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة لفترة تمتد لعام ونصف العام للعديد من الأسباب التي بدأت آثارها بالفعل، ويعمل كل ذلك على تحجيم مستوى الطاقة الإنتاجية، ويخفض إلى أدنى مستوى حجم الطاقة الإنتاجية الفائضة، وفي ظل هذه الظروف سترتفع الأسعار بحدة، كما أن أي انقطاع مفاجئ ولو محدود من حيث الكمية أو الزمن في الإمدادات ستكون له تأثيراته البالغة على ارتفاع الأسعار.
في ظل تلك التطورات الثلاثة السابقة ستميل الأسعار إذا للارتفاع، حيث نتحدث عن أسعار تبلغ ما بين 90-100 دولارا لبرميل النفط من نوع برنت على المدى القصير، لتزيد لما يتراوح بين 120-150 دولارا للبرميل على مدى عام ونصف العام إلى عامين.
لكن إلى جانب هذه التوقعات التي تبالغ في ارتفاع أسعار النفط مستقبلا هناك أيضا "القطب الثاني" الذي يتوقع انخفاضا أو على الأقل ثبات أسعار النفط خلال الفترة المقبلة، وهو ما قد نعرض له في مقال لاحق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة