هناك الكثير من العوامل التي يمكن في حال استمرار توفرها خلال العام الحالي أن تؤدي إلى تماسك الأسعار عند مستويات مرتفعة نسبيا.
يبدو أن الدول المستهلكة، وكما هو متوقع، أخذت تتململ من زيادة أسعار النفط، وباتت تخشى أكثر استمرار ارتفاع الأسعار خلال العام الحالي. ويبدو أن هذا التململ وتلك الخشية، من العديد من التقديرات التي تذهب في بعض الأحيان إلى أن معدل الطلب على النفط سينخفض خلال العام المقبل، مقابل زيادة العرض من خارج الأوبك وهو ما يعني فشل الأوبك في تحقيق هدفها بخفض مستوى المخزون في البلدان المستهلكة، وهو ما سيدفع بالضرورة إلى انخفاض الأسعار.
وتذهب هذه التوقعات في أحيان أخرى إلى أن الارتفاع الحالي في الأسعار سيدفع الدول الـ24، التي تضم الأوبك والمنتجين خارجها الذين اتفقوا على استمرار خطة خفض الإنتاج بمقدار 1.8 مليون برميل يوميا حتى نهاية العام الحالي، إلى هجر هذه الخطة، وسرعان ما سنرى الدول وهي تغش وتنتج بمستويات تتجاوز الحصة المقررة لها. وحتى حينما تواجه هذه الجهات بأن معدل الالتزام بالخطة بلغ نحو 129% في شهر ديسمبر الماضي، أي أنه تجاوز بكثير المتفق عليه، تشير هذه الجهات إلى أن الأسباب هي العجز البالغ الطارئ على إنتاج بعض الدول مثل فنزويلا كسبب لهذا المعدل المرتفع. باختصار تبدو الدول المستهلكة وكأنها تعمل على هدي من مقولة "النبوءة التي تحقق ذاتها".
ارتفاع الأسعار سيدفع نحو المزيد من إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، وربما أيضا الإنتاج من المياه العميقة في بلد مثل البرازيل، ولكن نرى أن هناك حدودا لهذه الزيادة، بحيث قد لا تبلغ المستويات المقدرة.
وحسنا فعل عدد من وزراء من بلدان الأوبك وحلفائها، وبالأخص روسيا، عند اجتماع لجنة مراقبة الالتزام بخطة خفض الإنتاج يوم الأحد الماضي في عُمان، حين أكدوا على ضرورة الالتزام بالاتفاق حتى يتحقق الهدف منه بخفض مستوى المخزون لدى الدول المستهلكة.
بل حسنا فعل بعضهم أيضا بالتأكيد على أنه سوف يتم البحث خلال العام الجاري في كيفية استمرار التعاون مستقبلا حتى بعد انتهاء أجل اتفاق خفض الإنتاج المحدد له نهاية العام الحالي. ويعد التشكيك في مدى تماسك جبهة الأوبك وحلفائها هو بداية الطريق نحو إشاعة جو من عدم الاستقرار في الأسواق، بما يحقق مصالح البلدان المستهلكة.
تقديرات واستنتاجات
من أجل تحقيق هدفهم في خفض الأسعار أو الحد من ارتفاعها صدر العديد من التقديرات عن بعض الجهات التي تمثل مصالح الدول المستهلكة مثل وكالة الطاقة الدولية، وأيضا وكالة معلومات الطاقة الأمريكية. وربما كان أحدث التقديرات في هذا الشأن تلك التي تضمنها التقرير الشهري لوكالة معلومات الطاقة الأمريكية والصادر في 19 يناير ، حيث يشير إلى أن معدل نمو الطلب بلغ 1.6 مليون برميل يوميا في العام الماضي، ويتوقع انخفاض هذا المعدل إلى نحو 1.3 مليون برميل يوميا خلال العام الحالي.
وتُرجع الوكالة هذا الانخفاض في معدل النمو إلى عدة أسباب، من أهمها: أثر ارتفاع الأسعار ذاته على خفض الطلب، وتغير نمط استخدام النفط في الصين، والضعف في معدلات نمو الطلب مؤخرا في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم الدول الصناعية المتقدمة وبعض البلدان الصاعدة، وهي الكتلة الأكثر استهلاكا للنفط في العالم، إضافة إلى التحول نحو استخدام الغاز الطبيعي بدلا من النفط.
وتوقع تقرير وكالة الطاقة الدولية ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة بمقدار 1.1 مليون برميل يوميا مقارنة بارتفاع بلغ 870 ألف برميل فقط خلال العام الماضي، ويشير التقرير إلى أنه بعد الأخذ في الاعتبار زيادة الإنتاج المتوقعة في كل من أمريكا وكندا والبرازيل وبلدان أخرى، وبعد الأخذ في الاعتبار أيضا الانخفاض المحتمل في إنتاج المكسيك والصين وبلدان أخرى في العالم، فمن المنتظر أن تبلغ الزيادة في إنتاج الدول غير الأعضاء في أوبك نحو 1.7 مليون برميل يوميا. ويأتي هذا الارتفاع في العرض مقابل توقع نمو الطلب بنحو 1.3 مليون برميل يوميا فقط.
عوامل قد تؤدي إلى تماسك الأسعار
هناك الكثير من العوامل التي يمكن في حال استمرار توفرها خلال العام الحالي أن تؤدي إلى تماسك الأسعار عند مستويات مرتفعة نسبيا، ويأتي على رأس هذه العوامل استمرار انخفاض الإنتاج في بعض دول منظمة الأوبك وعلى رأسها فنزويلا وليبيا ونيجيريا. فيقدر أنه خلال العام الماضي انخفض إنتاج فنزويلا إلى أكثر من 600 ألف برميل يوميا، وهو ما يعد أكبر انخفاض غير مخطط له خلال العام، حيث هبط الإنتاج خلال العام الماضي ليسجل نحو 1.61 مليون برميل يوميا، وهو نحو نصف المستوى الذي كان عليه في عام 1999. كما أن الأوضاع ما زالت في ليبيا ونيجيريا بعيدة عن الاستقرار بما قد يؤدي إلى نقص كبير في العرض من حين لآخر.
العامل الثاني المهم، وكما يوضح التقرير الشهري لوكالة معلومات الطاقة، هو انخفاض المخزون التجاري في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للشهر الرابع على التوالي في شهر نوفمبر الماضي بنحو 17.9 مليون برميل، كما تشير البيانات الأولية إلى انخفاض آخر يبلغ 42.7 مليون برميل خلال شهر ديسمبر.
وخلال الفترة من يناير إلى سبتمبر هبطت المخزونات بنحو 630 ألف برميل يوميا (أي أكثر من 170 مليون برميل خلال هذه الفترة)، وهو ما ترتب عليه ارتفاع سعر برميل نفط برنت بمقدار 25 دولارا فوق أقل مستوى سجله خلال العام الماضي في شهر يونيو والبالغ 45 دولارا للبرميل.
العامل الثالث هو الاحتمالات القائمة بارتفاع معدل نمو الطلب بأكثر مما تشير إليه تقديرات الجهات الممثلة للدول المستهلكة، فوفقا لشركة النفط الوطنية الصينية CNPC من المقدر ارتفاع الطلب الصيني على النفط بمقدار 4.6% في العام الحالي ليبلغ 12 مليون برميل يوميا، أي هناك ارتفاع يبلغ ما يزيد على 550 ألف برميل يوميا، أي نحو 42% من الارتفاع في طلب العالم كله المقدر من قبل المستهلكين والبالغ 1.3 مليون برميل يوميا.
وتتأسس هذه التقديرات على توقع نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 6.7% هذا العام مقارنة بمعدل نمو بلغ 6.9% خلال العام الماضي. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن جميع التقديرات تذهب إلى تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة قياسا بالعام الماضي في بلدان مستهلكة كبيرة مثل الهند والبرازيل، فقد يزيد معدل نمو الطلب عن التقديرات المذكورة.
تكلفة النفط الصخري
العامل المهم الآخر الذي يتم تجاهله إلى حد ما هو أثر ارتفاع كلفة إنتاج النفط الصخري على مستوى الإنتاج المتوقع هذا العام في الولايات المتحدة، فهناك ارتفاع ملحوظ في الأجور مع انخفاض معدل البطالة إلى 4.1% وهو أدنى معدل منذ 17 عاما، وندرة العثور على قوة العمل ذات التأهيل المطلوب، والحال أشد حرجا في الولايات التي تشهد نشاطا مكثفا في مجال استخراج النفط الصخري؛ إذ انخفض معدل البطالة على سبيل المثال في ميدلاند بولاية تكساس إلى أقل من 3% خلال العام الماضي. ويترتب على هذا الوضع تقديم شركات النفط الصخري حوافز كبيرة للعمال للانتقال إلى أماكن الاستخراج التي تشكو من ندرة العمالة.
إضافة إلى ذلك، فمن المتوقع إقدام مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي (بنك الولايات المتحدة المركزي) على رفع معدل الفائدة 3 مرات على الأقل خلال العام الحالي بعد أن رفعه مرتين خلال العام الماضي، وهو ما يعني ارتفاع كلفة رأس المال بالنسبة لشركات النفط الصخري.
وكانت النتيجة المترتبة على ارتفاع تكلفة كل من العمالة ورأس المال قد بدأت تظهر بالفعل خلال العام الماضي في نتائج أداء شركات النفط الصخري؛ إذ أوضحت مجلة فوربس الأمريكية أن هامش ربح شركة نابورس للصناعات، والتي تمتلك أكبر مساحة أرض وأكبر أسطول من منصات الحفر، قد انخفض خلال الربع الثالث من العام الماضي مقارنة بنفس الربع من عام 2016، وذلك على الرغم من الزيادة الملحوظة في الطلب والإنتاج وأسعار النفط. وبات كثير من شركات النفط الصخري يتوقع ارتفاع تكلفة إنتاجها بنحو 10% هذا العام مقارنة بالعام الماضي.
والحال أنه لا يمكن إنكار أن ارتفاع الأسعار سيدفع نحو المزيد من إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة، وربما أيضا الإنتاج من المياه العميقة في بلد مثل البرازيل، ولكن نرى أن هناك حدودا لهذه الزيادة، بحيث قد لا تبلغ المستويات المقدرة.
وبينما تطرح وكالة معلومات الطاقة الأمريكية التساؤل عما إذا كان الارتفاع في سعر برميل النفط قد فقد قوة الدفع بحيث يعد سعر 70 دولارا مرتفعا بالفعل، فإجابتها التي نراها واقعية هي أن الأمر محل ترقب. وتذهب الوكالة إلى أنه في وسط حالة عدم الاستقرار الجيوبولتيكي والتوقعات بنشاط متواصل أكبر في مجال النفط الصخري فالمتوقع هو عام من تقلب الأسعار.
ورغم عدم إنكار أن الأسعار ستكون متقلبة، وكما كانت في الواقع خلال العامين الماضيين، فمن المنطقي التوقع في ظل حالة التماسك التي تبدو عليها بلدان الأوبك وحلفاؤها بأن يكون مدى هذا التقلب محدودا، حيث سنبقى على الأرجح ندور في نطاق أضيق للأسعار، وسيكون هذا النطاق ضيقا مقارنة بما كان عليه تحديدا خلال العام الماضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة