اشتدت حدة المضاربة نحو انخفاض أسعار النفط بسبب عدم اليقين بشأن العرض والطلب العالميين وترجيح كفة حدوث ارتفاع كبير في نمو العرض
تتعرض سوق النفط العالمي الآن لحالة من التقلب الشديد، بحيث لا يتبين اتجاه واضح لها، وعادة ما تتعرض السوق لهذه الحالة في ظل توافر عوامل عدم اليقين بشأن مستقبل حركة العوامل التي تعد الأكثر تحكما في سوق وأسعار النفط. ففي ظل هذه الحالة من عدم اليقين تلعب المضاربة، تقليديا، دورا كبيرا في تحديد مستوى الأسعار التي تشهدها السوق يوميا، وآية تصاعد دور المضاربة تبدو واضحة في تقلب الأسعار بنسب كبيرة غير معتادة بين يوم وآخر، بل وخلال اليوم الواحد ذاته، فعلى حين يتراوح عادة هامش تقلب الأسعار بين أقل من 1% إلى أقل من 2% نتيجة لعوامل ظرفية قصيرة المدى، كانقطاع مؤقت أو مُتوَقَّع في الإمدادات، أو حدوث أي حدث عارض في أحد الدول المنتجة أو المستهلكة الكبيرة بحيث يؤثر تأثيرا لحظيا على العرض من والطلب على النفط، أو لارتفاع أو انخفاض المخزون، إلا أنه في ظل حالة عدم استقرار السوق وتصاعد دور المضاربة يتسع هذا الهامش بشكل كبير. وهذا تحديدا ما شهدناه من تقلب في أسعار النفط خلال الأسبوع المنقضي، فبينما انخفض سعر برميل النفط من خام برنت، يوم الإثنين الماضي، 3.35 دولار أو بنسبة 6.2% ليبلغ سعر التسوية 50.47 دولار، وهو ما تم تعزيته إلى المخاوف بشأن تباطؤ الاقتصاد، إذا بهذا السعر يرتفع بمقدار أربعة دولارات أو بنحو 8%، يوم الأربعاء، ليبلغ سعر التسوية 54.47 دولار للبرميل؛ ومن الطبيعي أن المخاوف بشأن تباطؤ الاقتصاد لم تختفِ بين عشية وضحاها، فما الأسباب الحقيقية إذن لمثل هذا التقلب الحاد في الأسعار؟
ربما يكون الربع الأول من العام المقبل حاسما في توضيح اتجاه تطور الاقتصاد العالمي، والاتجاه المحتمل لحركة أسعار النفط، فلا يمكن تجاهل أن هناك مهلة ينتهي أجلها في بداية شهر مارس المقبل للتوصل إلى حل للخلافات بين الولايات المتحدة والصين عبر التفاوض
العرض والطلب والمضاربة
اشتدت حدة المضاربة نحو انخفاض أسعار النفط بسبب عدم اليقين بشأن العرض والطلب العالميين، وترجيح كفة حدوث ارتفاع كبير في نمو العرض، وانخفاض ملحوظ في نمو الطلب، خلال العام المقبل، ففي جانب العرض يتم التركيز دوما على الارتفاع المتوقع في إنتاج البلدان خارج دائرة البلدان الأعضاء في اتفاق الأوبك+، خاصة إنتاج الولايات المتحدة التي من المنتظر أن تحافظ على مكانة أكبر منتِج عالمي للنفط، خلال العام القادم، وهي المكانة التي بلغتها خلال شهر ديسمبر الحالي، ويُقدَّر ارتفاع الإنتاج الأمريكي إلى أكثر من 12 مليون برميل يوميا بقليل عند منتصف العام المقبل، كما بات من المتوقع أن يسجل متوسط الإنتاج خلال عام 2019 ككل ارتفاعا بمقدار 1.2 مليون برميل يوميا مقارنة بمتوسط عام 2018، هذا بالطبع إلى جانب زيادة الإنتاج في بلدان أخرى مثل البرازيل والمملكة المتحدة.
في الوقت ذاته كانت هناك تحركات ملحوظة من قبل المضاربين للتشكيك في قدرة اتفاق أوبك+ الجديد القاضي بخفض إنتاج هذه الدول بمقدار 1.2 مليون برميل يوميا على التأثير في المعروض العالمي وتحقيق حالة توازن في السوق، وبدا هذا التشكيك أولا في إشاعة القول بأن الاتفاق الجديد لن تلتزم به بعض الدول، وأن روسيا غير المتحمسة ستخفض إنتاجها ببطء ليتحقق خفض إنتاجها على مدى عدة أشهر، ثم كان التحرك التالي يتمثل في ترويج المضاربين لمقولة إن مستوى الخفض بمقدار 1.2 مليون برميل يوميا فقط لن يكون كافيا لإحداث التوازن المطلوب في السوق.
وفي جانب الطلب تتم الإشارة باستمرار إلى التوقعات السائدة بحدوث انخفاض شديد في النمو الاقتصادي العالمي خلال العام المقبل، بحيث سيقل نمو الطلب بشكل ملحوظ مقارنة بما كان عليه خلال الأعوام الأخيرة، وتستند هذه التوقعات إلى توقع انخفاض معدلات النمو الاقتصادي نتيجة لاستمرار مخاطر حرب التجارة بين الولايات المتحدة والصين وانعكاساتها المحتملة على بقية الدول، هذا إلى جانب الأزمات المالية التي يمر بها العديد من بلدان الاقتصادات الناشئة، وارتباك أوروبا في قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفي حركات الاحتجاج الجماهيري التي تشهدها بعض بلدانها. يضاف إلى ما سبق توقع انخفاض معدلات النمو نتيجة استمرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في تشديد السياسة النقدية برفع أسعار الفائدة، خلال العام المقبل. إذ بعد أن رفع المجلس سعر الفائدة يوم 19 ديسمبر الماضي بمقدار ربع نقطة مئوية، وهو أمر كان متوقعا، كان البعض يراهن على أن المجلس ربما يشير إلى توقفه عن تشديد السياسة النقدية بسبب مخاطر التراجع الاقتصادي السائدة في الأسواق، وهو ما لم يحدث؛ ومن هنا التقط المضاربون أيضا هذا الخيط للتأكيد على أن احتمالات تراجع النمو الاقتصادي باتت أقوى في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان.
ربع سنة حاسم
ربما يكون الربع الأول من العام المقبل حاسما في توضيح اتجاه تطور الاقتصاد العالمي، والاتجاه المحتمل لحركة أسعار النفط، فلا يمكن تجاهل أن هناك مهلة ينتهي أجلها في بداية شهر مارس المقبل للتوصل إلى حل للخلافات بين الولايات المتحدة والصين عبر التفاوض، وصحيح أن الأخطار ما زالت قائمة، إلا أن هناك أيضا ما يشي ببعض التطور الإيجابي بهذا الصدد، خاصة مع الإدراك المتزايد في كل من البلدين لمخاطر الدخول في حرب تجارية مكشوفة تطال جميع المعاملات التجارية بينهما. ومن الطبيعي أنه إذا ما تم التوصل لمثل هذا الحل، فإن الاقتصاد العالمي لن يشهد تباطؤا، أو على الأقل لن يشهد تباطؤا بنفس الحدة التي يتم توقعها الآن، أما بشأن أسعار الفائدة الأمريكية فبينما خيّب بيان مجلس الاحتياطي الفيدرالي آمال البعض في توقفه عن رفع سعر الفائدة، خلال العام المقبل، فإن البيان أشار أيضا إلى قرب التوقف عن تشديد السياسة النقدية، وهو ما قد يشير إلى احتمال رفع المجلس لسعر الفائدة مرة إضافية خلال العام المقبل بربع نقطة مئوية ثم التوقف عند ذلك، وهو تطور إيجابي، لأن التوقع الذي كان سائدا من قبل هو رفع المجلس لسعر الفائدة مرتين خلال النصف الأول وحده من العام المقبل.
أيضا لا يمكن تجاهل بعض التصريحات القوية من قبل أقطاب كبار في اتفاق أوبك+، فقد ذكر وزير الطاقة الإماراتي (الرئيس الحالي لمنظمة الأوبك) سهيل المزروعي، يوم الأحد الماضي، أنه إذا لم تكفِ تخفيضات الإنتاج المتفق عليها والتي تبلغ 1.2 مليون برميل؛ فسيعقد المنتجون من أوبك وخارجها اجتماعا استثنائيا وسيفعلون ما هو ضروري لتحقيق التوازن في سوق الخام. وفي ذات السياق صرّح وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك في مقابلة مع صحيفة اقتصادية روسية، يوم الثلاثاء الماضي، بأن الاتفاق العالمي قد يتغير بناء على تغيرات وضع السوق، وأكد أن بلاده ستخفِّض إنتاجها بمقدار 230 ألف برميل يوميا بسلاسة بدءا من يناير، وربما الأهم هو قوله بإن تقييم روسيا لسوق النفط ينسجم عموما مع السعودية ودول أخرى، وهو ما يشير إلى قوة وتماسك أطراف الاتفاق بعد أن حاول المضاربون في السابق التشكيك في حماس ونية روسيا على التوصل إلى اتفاق بداية، ثم إلى تشكيكهم في جدية تطبيقها له ثانيا. وربما كان هذان التصريحان، حقيقةً، من بين أهم الأسباب في الارتفاع الكبير في الأسعار خلال يوم الأربعاء الماضي، إلى جانب ما يذكره البعض من أن الميل نحو الانخفاض كان مبالغا فيه كثيرا بتأثير المضاربة. وربما نشهد إذن اجتماعا استثنائيا، خلال شهر فبراير أو مارس المقبل، لأطراف اتفاق أوبك+، إذا ما استمرت الأسعار على مستواها المنخفض الحالي في بداية العام المقبل.
لا يمكن أيضا تجاهل أن من بين أهم أسباب التدهور الحاد في سعر برميل النفط بما يقرب من 40% بين شهري أكتوبر وديسمبر يعود إلى التراجع في الموقف الأمريكي بشأن العقوبات التي فرضتها على صادرات النفط الإيراني، وذلك بمنح أهم البلدان المستوردة لهذا النفط استثناءا، والاستمرار في استيراد كميات منه لمدة ستة أشهر، ومن المقرر أن ينتهي هذا الاستثناء مع بداية شهر مايو المقبل، وعلى ذلك فمن المنتظر أنه مع شهر مارس ستكون نية الإدارة الأمريكية قد اتضحت بشأن إنهاء هذا الاستثناء والسعي لتطبيق صفر صادرات إيرانية، وهو ما أعلنت، خلال الصيف الماضي، أنه الهدف المرتقب وهو ما نرجح حدوثه، أو ربما الاتجاه لإعلان أي موقف بديل آخر.
من المتوقع إذن أن تستمر حالة عدم اليقين لفترة من الوقت، وهو ما قد يؤدي إلى استمرار لعب المضاربين دورا في الأسواق على المدى القصير جدا، وهو الأمر الذي كان قد أشار له وزير الطاقة في المملكة العربية السعودية منذ عدة أيام، ولكن ربما يكون الربع الأول من العام المقبل حاسما في تقرير ما إذا كانت السوق ستشهد حالة من الاستقرار والتوازن والاتجاه من ثَمَّ نحو ارتفاع ملموس في أسعار النفط.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة