قضية تسعير النفط في السوق العالمية قضية معقدة ومتشابكة، وحتى من وجهة نظر جهة واحدة مهمة مثل الأوبك، حيث مرت قضية التسعير بعدة تطورات
أعاد بعض المسؤولين في قطاع النفط الروسي من جديد طرح قضية أسعار النفط، حينما ذكروا أن السعر الذي يتراوح ما بين 55 إلى 65 دولارا لبرميل النفط من نوع برنت يعد مناسبا لروسيا، ويرى هؤلاء أنه ينبغي عدم تمديد اتفاق خفض الإنتاج لتحالف أوبك+ والتركيز على قضية الحصة السوقية في مواجهة تنامي الإنتاج الأمريكي على حساب حصة روسيا والآخرين، وتناسى هؤلاء تماما ما أدت إليه خطة الحفاظ على الحصة السوقية مع انخفاض أسعار النفط خلال النصف الثاني من عام 2014، وما أعقب ذلك من انهيار في الأسعار حتى بلغ سعر برميل خام برنت أقل من 30 دولارا في يناير 2016.
من المؤكد أن المعيار الذي تستند إليه اتفاقية الأوبك+ في تحديد مستوى خفض الإنتاج هو بديل يحقق استقرارا أكثر في السوق، وهو معيار مستوى متوسط المخزون لدى الدول المستهلكة في آخر خمسة أعوام، فهو بديل يحقق مستوى مرتفعا من الاستقرار دون أن يرتبط بسعر محدد، سواء أكان سعر إشارة أم نطاقا سعريا
وقضية تسعير النفط في السوق العالمية قضية معقدة ومتشابكة وحتى من وجهة نظر جهة واحدة مهمة مثل الأوبك؛ حيث مرت قضية التسعير بعدة تطورات، خاصة في حال وجود فائض عرض في الأسواق يدفع نحو انهيار الأسعار في أحيان كثيرة، مما أدى بالمنظمة، وأحيانا بالتعاون مع منتجين من خارجها، إلى تبني خطط لخفض الإنتاج حتى يمكن رفع الأسعار عن مستواها المتدني إلى مستوى يعد مقبولا من جانب الأوبك أو الأوبك وحلفائها.
كانت قضية تحديد سعر مستهدف لبرميل النفط أمرا مهما لنفي حالة البلبلة في السوق العالمية وبين الدول أعضاء منظمة أوبك على السواء؛ حيث كانت تسود حالة من الحيرة الشديدة حول مستوى الإنتاج الكفيل بتحقيق الاستقرار في الأسواق، وطبيعي أنه لا يمكن تحديد مستوى للإنتاج دون تحديد سعر معين مستهدف.
وكانت منظمة الأوبك تقليلديا ومنذ لجأت إلى تحديد سقف لإنتاجها وحصص لدولها الأعضاء تحدد ما يسمى بسعر الإشارة، أي تحديد سعر معين لبرميل النفط، ثم لجأت المنظمة منذ بداية الألفية الجديدة إلى تحديد ما يسمى بالنطاق السعري، والذي كان يتراوح آنذاك بين 22 و28 دولارا للبرميل، ولكن مع الارتفاع الهائل في الطلب وبدء الزيادة في الأسعار خاصة في عام 2004، كانت المنظمة تنتج بطاقتها الإنتاجية القصوى واستمرت الأسعار في الارتفاع، وبالتالي لم يكن بمقدور المنظمة التدخل لعدم توافر إنتاج إضافي لديها، وهو ما دفع نحو تجاهل موضوع النطاق السعري.
لكن مع الانخفاض الشديد والسريع في الأسعار كان على المنظمة التدخل لصيانة مصالح أعضائها وتحقيق الاستقرار في السوق، ومن هنا كان لا بد من خففض حجم الإنتاج، ولكن يظل السؤال المطروح هو.. ما هو حجم التخفيض المناسب؟ ومن المنطقي أن حجم هذا التخفيض يعتمد على ما هو السعر المستهدف؛ إذ يمكن بعد تحديد هذا السعر التدخل بخفض حجم الإنتاج إلى أن يتحقق هذا السعر.
وبدلا من اللجوء لسعر الإشارة كما جرت العادة، لجأت الأوبك لفكرة النطاق السعري، وتدور فكرة النطاق حول تحديد حدّين أدنى وأقصى للأسعار؛ حيث يتم التدخل، وعندهما إما بخفض الإنتاج أو زيادته حسب مستوى الأسعار السائد في الأسواق، والواقع أن فكرة النطاق السعري كانت فكرة جديدة بدلا من تحديد سعر محدد مستهدف لبرميل النفط، وحيث يتم التدخل آليا في الأسواق في حال تحرك الأسعار خارج هذا النطاق السعري المستهدف، وذلك كبديل عن الدفاع عن نقطة سعرية محددة كما كان الحال دوما فيما يسمى بسعر نفط الإشارة. وكان من المزايا الجيدة لهذا النهج الدفع نحو المزيد من الاستقرار في الأسعار لتحقيق صالح الدول المنتجة.
ففكرة النطاق السعري على خلاف سعر نفط الإشارة لا تعني وبشكل خاص في حالة انخفاض الأسعار هزيمة خطط منظمة الأوبك (أو الأوبك وحلفائها) حيث إنه مسموح بالانخفاض ضمن مدى محدد ليتم التدخل في حال وصول الأسعار للحد الأدنى المتفق عليه بخفض الإنتاج بكمية متفق عليها سلفا، ودون أي اعتراضات من جانب أي طرف حول كمية الخفض ومن يتحمله كما كان الحال مع آلية سعر نفط الإشارة.
كما أن القرار ربما يؤدي إلى تقليص ضغوط المضاربين نتيجة توقعهم مسبقا بتدخل الأوبك في الحالات الحدية من انخفاض أو ارتفاع الأسعار، وكان النطاق السعري الذي تبنته أوبك في السابق ينص على خفض الإنتاج بمقدار نصف مليون برميل يوميا في حال انخفاض الأسعار عن الحد الأدنى المحدد ضمن النطاق لمدة عشرة أيام عمل متتالية، كما أن القرار كان ينص على زيادة مستوى إنتاج دول منظمة الأوبك في حال ارتفاع الأسعار فوق الحد الأقصى المحدد في النطاق لمدة عشرين يوم عمل متتالية.
ما طرحه المسؤولون الروس مؤخرا وبشكل ضمني هو نوع ما من النطاق السعري يتراوح بين 55 و65 دولارا للبرميل، ولكن مشكلة هذا الطرح أنه يجري ضمن ما يدعون إليه من الدفاع عن الحصة السوقية، ودون وجود أي اتفاق حول حدود التدخل للحفاظ على هذا النطاق السعري.
أي ما الذي يجب فعله إذا ما تحرك السعر لأقل من 55 دولارا أو زاد على 65 دولارا؟ هل هناك أي ضمانة بالحفاظ على هذا المستوى المقترح من الأسعار؟ وهل هناك ما يضمن ألا تنزلق الأسعار إلى 40 أو حتى 30 دولارا للبرميل كما أشار لذلك مؤخرا وزير الطاقة الروسي ذاته؟ الواقع أنه لا توجد أي ضمانة، بل ترشح أوضاع العرض والطلب في سوق النفط العالمي تدهور الأسعار إذا لم يتم لجم الزيادة في الإنتاج عبر تمديد العمل باتفاق خفض الإنتاج بمقدار 1.2 مليون برميل حتى نهاية هذا العام على الأقل.
فعلى جانب العرض، ما زالت الأوضاع الاقتصادية العالمية تعاني من تدهور نتيجة حرب التجارة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، بيث لن تقتصر على طرفيها رغم أهميتهما كأكبر اقتصادين في العالم وأكبر مستهلكين للنفط. إذ بات التوقع السائد أن تنخفض معدلات النمو الاقتصادي في العديد من دول العالم، وهو ما بدأ يحدث فعليا، حيث يتوقع البعض ألا يزيد معدل النمو الأمريكي خلال الربع الثاني من العام عن 1.3% بعد أن سجل نحو 3% في الربع الأول، حيث بات مؤكدا ألا يحقق الاقتصاد الأمريكي معدل نمو 3% التي كانت متوقعة له هذا العام.
وينطبق الأمر نفسه على الصين، التي انخفض الإنتاج الصناعي فيها إلى أقل معدل له منذ 17 عاما في شهر مايو الماضي. وهكذا الأمر في بعض البلدان الصناعية المتقدمة مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، والعديد من الأسواق الناشئة والدول النامية المصدرة للمواد الأولية مع انخفاض الطلب على منتجاتها، وكل ذلك بتأثير حرب التجارة وما خلفته وستخلفه من آثار سلبية على سلاسل الإمداد وعلى الطلب على منتجات هذين البلدين.
أما على جانب العرض، فهناك استمرار في ارتفاع الإنتاج خاصة في الولايات المتحدة، وفقا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية فمن المتوقع أن يزيد الإنتاج من النفط الصخري إلى مستوى قياسي في شهر يوليو المقبل ليبلغ 8.52 مليون برميل يوميا.
ومن المؤكد أن المعيار الذي تستند إليه اتفاقية الأوبك+ في تحديد مستوى خفض الإنتاج هو بديل يحقق استقرارا أكثر في السوق، وهو معيار مستوى متوسط المخزون لدى الدول المستهلكة في آخر خمسة أعوام. فهو بديل يحقق مستوى مرتفعا من الاستقرار دون أن يرتبط بسعر محدد، سواء أكان سعر إشارة أم نطاقا سعريا.
وحيث يكون الوضع مهيأ للتدخل بخفض مستوى الإنتاج مع ارتفاع مستوى هذا المخزون فوق مستوى متوسط الخمسة أعوام الأخيرة، ولما كان مستوى هذا المخزون يزيد بشكل واضح الآن عن متوسط هذه الأعوام الخمسة، فلا جدال أن قضية تمديد العمل بخطة خفض الإنتاج تعد هي الخطوة المناسبة، دون التعرض لقضية التسعير من قريب أو بعيد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة