الرهان على الكذب هو أفشل الرهانات، وتفويت الفرص واحدة تلو الأخرى أملاً بخلاصٍ يأتي من العدم هو ضربٌ من الحُمق السياسي غير المسبوق
عندما سحقت القوات الروسية قوات جمهورية جورجيا المتظللة بعباءة العم سام في حرب خاطفة صيف عام 2008، خرج الرئيس الأميركي حينها جورج دبليو بوش مُندداً بما جرى ومصرّحاً بأن غزو روسيا لدولةٍ «مستقلّة» أمرٌ غير مقبول في القرن الواحد والعشرين، المضحك لحد البكاء أنّ بوش نفسه غزا دولة مستقلة هي العراق، وأسقط حكومتها وفتكت قنابل طائراته بشعبها من دون سبب أو حتى غطاء من الأمم المتحدة، أيضاً حدث هذا في القرن الواحد والعشرين!
الكاذبون في كل عصر يكررون الأحاديث نفسها، ويتلاعبون بالمصطلحات ذاتها، وإنْ كان مِن شيء يُحسَدون عليه فهو تلك القدرة العجيبة في التغابي والتعامي عن الحقائق الدامغة التي يعارضونها، والأدلة البيّنة التي لا قدرة لهم على تفنيدها، لكنها سياسة الهرب للأمام وملء الفضاء بالأكاذيب المغطّاة بالعبارات الرنانة التي تحاول استدرار تعاطف المتلقّي، وخلط الأوراق واستغلال بُعد أغلب الحضور عن مجرى الأحداث، فمن «سبق لبق» هو النهج الذي يعرفه ساسة قطر، والذين ما زالوا يكذّبون حتى استحى الكذب نفسه من الحد الذي وصلوا له!
خرج علينا قبل أيام تميم بن حمد على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة بنيويورك، وتأمل البعض خيراً مِن أنّه سيحاول ردم الهوّة بين بلاده وشقيقاتها، وسيثبت أنّه «نضج» وسيقف أخيراً كرجل دولة وليس كخيال مآته لا يُستخدَم إلا لتمرير ما يريد الحمدان عرّابا الخراب في الوطن العربي.
وأنه لن يستمع بعد اليوم لأوامر عضو الكنيست الإسرائيلي ومستشاره المقرّب عزمي بشارة، تأملوا كثيراً ولكنّ الأكثرية كانوا يعرفون أنّ «الأعوج لا يعتدل»، خاصة مع تلك البداية الطنانة في الحديث عن المُثل العليا والتي كان واضحاً أنها تمهيد لتمرير الكذب كعادة الخطاب السياسي القطري، وكم كان ظريفاً وهو يحاول تذكير الجميع ما عدا نفسه وحكومته بميثاق الأمم المتحدة المتعلّق بضرورة التعاون البنّاء بين الدول والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وحسن الجوار والتعايش السلمي!
«مُسيلمة» لم يتوقّف، وانطلق في كلمة مكتوبة لم يستطع مفارقة سطورها بنظره للحديث «التعبوي» واستخدام القضايا الإنسانية للتدليس على من لا يعرف حقيقة هذا النظام المتآمر، فبدأ بالتباكي على ما يجري لطائفة الروهينجا في ميانمار، وعرج للحديث عن القضية الفلسطينية وخطر التوسع في المستوطنات الصهيونية، موجهاً النقد للحكومة الإسرائيلية التي تحتضن الدوحة ممثليّة دبلوماسية لها ومتناسياً عمداً قيام حكومته ممثلة بوالده ببناء مستوطنة كاملة على أراضي الفلسطينيين المغتصبة، وتقديمها «عربون محبة» لأصدقائهم الصهاينة!
ويواصل مسيلمة كلمته العاطفية «المكتوبة» ليتحدث عن «الحصار»، ذاكراً أنّه مسَّ جميع مناحي الحياة في قطر قبل أن يُناقض نفسه بأنّ بلاده تتواصل مع العالم من خلال مجالات جوية وبحرية أخرى، ولم يَفُت عليه تكرار الكذبة الخاصة بتركيع قطر وإخضاعها لوصاية شاملة.
وهو العُذر الهش الذي يتعلقون به للتهرّب من ضرورة «كف شرّهم» عن دول الجوار، قبل أن يبدأ بالثرثرة المعتادة عن «المساس بالسيادة»، وزاد العيار هذه المرة عندما ذكر أنّ هذا الأمر «أثار استغراباً عالمياً»، طبعاً لم يجرؤ على القول إنّ من استغرب كانوا ثلاثة فقط هم: إيران وتنظيم داعش وعصابات الحوثيين!
عاد مسيلمة لـ«السالفة» ذاتها عن قرصنة وكالة الأنباء والتصريحات المفبركة، متناسياً أن تصريحاته اللاحقة وأفعاله بعدها والتسريبات الصوتية لوالده ولحمد بن جاسم كانت أضعافاً مضاعفة من الخِسّة والتآمر لما ورد في تلك التصريحات.
عاد مسيلمة لـ«السالفة» ذاتها عن قرصنة وكالة الأنباء والتصريحات المفبركة، متناسياً أن تصريحاته اللاحقة وأفعاله بعدها والتسريبات الصوتية لوالده ولحمد بن جاسم كانت أضعافاً مضاعفة من الخِسّة والتآمر لما ورد في تلك التصريحات
وخفّض من نبرة صوته في استدرار للتعاطف وتقمّص للمظلومية، وهو يدّعي وجود حملة إعلامية تحريضية مُسبقة ضد بلده انتهكت فيها كل الأخلاق والأعراف، كما قال، لكنه لم يجرؤ من جديد على الاعتراف أنّ إعلامه ومرتزقته قضوا أكثر من عشرين سنة في شتم ومهاجمة دول الجوار «الشقيقة»، وخدمة معارضيها وبؤر الفتنة فيها!
ثم يستمر بالكذب بأن الدول المقاطعة قامت بملاحقة من يتعاطف مع قطر، ومن جديد لم يجرؤ بذكر أنّ من أوقفوا كانوا من قابضي «الشرهات» القطرية وأذناب جماعة الإخوان التي يرعاها نظام قطر بكل ما أوتي من قوة.
كم تمنيت أن يُقاطَع بذكر أسماء من حبسهم تميم ونظامه من القطريين الراغبين في الحج، والتنكيل بالحبس والضرب والإهانة لمن ذهب منهم لأداء شعائره وشكر مملكة الخير على حسن التعامل وتسهيل أمورهم، بل وأسقط الجنسية عن شيخ قبيلة آل مرة، وملأ السجون السريّة بكل مَنْ رفض هذا المسار الشيطاني لحكومة تميم، ولم يسلم من ذلك حتى أبناء الأسرة الحاكمة!
يتملّك مسيلمة الحماس لأنه «لم يُهْذَب» وهو يثرثر ولم يجد أسداً يقاطعه قائلاً: «أنت كذّاب مثل أبوك» فيهاجم الدول المقاطعة بأنها «معارضة للإصلاح وداعمة للحكومات الاستبدادية في المنطقة»، هنا يقف الحليم حيراناً، فحكومة قطر سجنت شاعراً بسبب قصيدة فقط أكثر من ست سنوات.
وهجّرت قبيلة كاملة وطردتها من أراضيها في مؤامرة وضيعة من حكومة حمد بن خليفة وتآمرت على اغتيال الملك عبدالله وتواطأت مع جماعة الحوثي الإجرامية لإسقاط الحكومة «المنتخبة» في اليمن وموّلت القاعدة وأفراخها في ليبيا وسوريا، وفوق ذلك فإن مسيلمة تناسى أن يخبرنا أن قطر لا يوجد بها مجلس شورى منتخب، حتى مجالس الطلاب في المدارس ليست منتخبة، فهل هناك استبداد أكثر من ذلك؟
الرهان على الكذب هو أفشل الرهانات، وتفويت الفرص واحدة تلو الأخرى أملاً بخلاصٍ يأتي من العدم هو ضربٌ من الحُمق السياسي غير المسبوق، جميعنا يعلم من كتب خطاب تميم، اللهجة معروفة والطرح محفوظ سلفاً.
للأسف فعزمي بشارة يحكم قطر فعلياً ويتحكّم في مفاصل الإعلام بها ويدير كل «أراجوزاته» لنسف البقيّة القليلة من احترام دول الخليج لهذه الدولة، الآن انتهت الجمعية العمومية وذهب الخطاب أدراج الرياح وعاد مسيلمة ليجد أنّ «مرشد الكنيست» ورّطه من جديد ليحرق آخر ما تبقى من أوراق مصالحة!
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة