نظرية "ولاية الفقيه" هي الفلسفة الحاكمة لإيران التي لا تجد قبولًا لدى الشيعة المعتدلين ورفضًا كبيرًا لدى الشيعة الحداثيين
حركات الإسلام السياسي السُّنية تقابلها حركات الإسلام السياسي الشيعيّة. نظرية "الخلافة" هي جوهر مشروع الإسلام السياسي السُّني، ونظرية "ولاية الفقيه" هي جوهر مشروع الإسلام السياسي الشيعي. كلتا النظريتيْن تقوم على إلغاء الدولة الوطنية وإقامة أممية إسلامية. تجتمع الأمة عند السنة تحت راية "الخليفة"، وتجتمع عند الشيعة تحت راية "الولي الفقيه".
إن نظرية "ولاية الفقيه" هي الفلسفة الحاكمة لإيران، وقد أصبحت هي الحاكمة أيضًا لكثيرٍ من الشيعة العرب. لا تجد النظرية قبولًا لدى الشيعة المعتدلين، ثم إنها تجد رفضًا كبيرًا لدى الشيعة الحداثيين. ولقد امتّد الرفض إلى عدد من رجال الدين الشيعة من العرب والإيرانيين. كان الفيلسوف الإيراني علي شريعتي، ورجل الدين اللبناني موسى الصدر.. هما أبرز من وقف ضدّ نظرية ولاية الفقيه.
يرى أنصار آية الله الخميني أنهم بثورتهم في إيران قد صنعوا التاريخ، ويرى آخرون أنهم قد أفسدوا التاريخ، وأن نهاية التاريخ لم تأتِ بعد، وأنه ربما يكون شريعتي والصدر هما المنتصران في المستقبل.
في كتابه "حوارات في الدين والسياسة"، والذي تشرفت بتحريره وتقديمه، يقول الدكتور محمد سليم العوا: "إن الملّا أحمد النراقي هو صاحب نظرية الولاية "الصغرى" للفقيه، وذلك على اليتامى والأرامل، فالفقيه ولّى من لا ولّى له". ثم جاء الخميني بعد قرنين وقال في كتابه "الحكومة الإسلامية": "هل كتب على الإسلام أن يخسر منذ غيبة الإمام الثاني عشر كل شيء؟.. إن غيبة الإمام أدت إلى غياب الدولة الإسلامية. لا يمكن إعادة الإمام الغائب. لكن يمكننا إعادة الدولة".
قام الخميني بتغيير الفقه الذي استقر ألف عام ليصبح الحُكم للفقيه، وليصبح هو نائبًا للإمام الغائب "المهدي المنتظر".. وهو المرجع الأعلى الذي لا يجوز عزله أو عصيانه، ويظل في موقعه مدى الحياة.
تطلّع الخميني إلى حُكم العالم الإسلامي سُّنةً وشيعة. وعلى ذلك أعاد صلاة الجمعة بعد انقطاعها عند الشيعة ألف عام، وأجاز صلاة الشيعة خلف أئمة المسجد الحرام، وكانوا من قبل يصلّون فرادى خارج الحرم. كما أن الخميني الذي كان يسمى "أبوبكر" و"عمر" بـ"صنميْ قريش"، وكان يسب السيدة "عائشة" والصحابة في كتابه "الفتاوى".. لم يعد إلى ذلك أبدًا.
على الجانب الآخر، كان الفيلسوف الإيراني علي شريعتي يؤسس مشروعه الفكري على التصالح السُّني - الشيعي، وعلى التصالح الشيعي - الحداثي.
الدكتور علي شريعتي هو عالم "اجتماع الدين" الأول في إيران. وعلى الرغم من نخبوية أفكاره، كان جمهوره كبيرًا للغاية. فقد طبع كتابه "الولاية" أكثر من مليون نسخة، وباعت مجمل أعماله قرابة العشرين مليون نسخة.
يقوم المشروع الفكري لـ"على شريعتي" على أساس مفهوميْن كبيريْن يرى أنهما أساس تمزيق النسيج الإسلامي: "التسنّن الأموي" و"التشيّع الصفوي".
وقفَ "على شريعتي" ضدَّ "التشيع الصفوي" بوضوح، وقال إنه حدثَ مزج في الموروث الشيعي الإيراني بين السلطة الإيرانية "الساسانية" وبين "النبوة الإسلامية". وتمّ اختلاق الروايات والأساطير حول علاقات المصاهرة بين إمام الشيعة "الحسين بن علىّ" وبين بنت كسرى المزعومة.. بغرض تحقيق الصلة بين "السلطة الساسانية" و"السلطة الإمامية الشيعية".
وامتدَّ نقد "شريعتي" للمذهب الشيعي الصفوي.. إلى نقده للطقوس والشعائر الحسينية، وقال إن الحكام الصفويين اقتبسوها من المحافل المسيحية في أوروبا الشرقية التي كانت تحيي فيها ذكرى شهدائها.. يقول شريعتي: "لقد حوّل الصفويون الإمام الحسين إلى صورة من آلام المسيح".
دَعَا "شريعتي" إلى نقد التشيّع الصفوي والتسنّن الأموي معًا، ودعا إلى التقارب بين ما سماه "التسنن المحمدي" و"التشيّع العلوي".
وقف رجال الأمن ورجال الدين معًا ضد "علي شريعتي". ولما جرى اغتياله عام 1977، كان ارتياح الطرفين كبيرًا. وعلى الرغم من المكانة الكبيرة التي يحظى بها "شريعتي" لدى المثقفين الشيعة والسُّنة، إلّا أن معظم رجال الدين الشيعة لا يزالون يهاجمونه. وما أسهل أن تجد عناوين صحفية لهؤلاء.. مثل "المقبور علي شرعيتي" و"الهالك علي شريعتي" و"المرتد علي شريعتي".
يقول خصوم شريعتي من رجال الدين الشيعة: إن شريعتي ليس مفكرًا، ولا إسلاميًّا، ولا شيعيًّا، ولا شهيدًا. بل إن الإمام موسى الصدر والذي اختطِف واغتيل هو الآخر بعد قليل من اغتيال علي شريعتي.. لا يزال يواجه هجومًا من تيارات شيعية لأنه قام بالصلاة على جثمان "علي شريعتي".
كان موسى الصدر مؤمنًا بالدولة الوطنية في لبنان، وكان مؤمنًا بالعروبة. زار عبدالناصر وساند ياسر عرفات. وقد كان في ذلك عدوًا للقوى الخمينية الصاعدة، وهي القوى المعادية للعرب، وغير المؤمنة بفكرة الدولة، أو مفاهيم الحدود والسيادة.
كان شريعتي وموسى الصدر أيضًا من الذين يؤيدون التوافق بين الإسلام والحداثة. وكانا في ذلك جزء من مدرسة شيعية كبيرة تضم "محمد كاظم شريعتمداري" و"أبوالقاسم الخوئي" ثم "محمد حسين فضل الله".. وجميعهم ضد نظرية ولاية الفقيه الخمينية.
رفض الإمام موسى الصدر مرجعية الخميني، وظل يقلد السيد محسن الحكيم، ثم الإمام أبو القاسم الخوئي.
ثمة نظريات تتحدث عن مسئولية الخميني عن اغتيال موسى الصدر في ليبيا، وذلك بالترتيب مع القذافي الذي كان من أبرز أنصار الثورة الإيرانية. وحسب كتاب لمؤلف من أصل إيراني يُدعى "أراش ريزنه أزهاد" بعنوان "شاه إيران"، فإن الخميني علّق على تقرير للسفير الإيراني لدى منظمة التحرير "علي أكبر محتشمي" - والذي أصبح وزيرًا للداخلية فيما بعد، مبديًا أسفه على "عدم ثورية الإمام الصدر"!.
كان موسى الصدر يرى أن نظرية ولاية الفقيه هي "نتاج عقل مريض"، ولكن ما حدث هو أنه جرى اغتيال الصدر وشريعتي معًا.. وأصبح الخميني نائبًا للمهدي المنتظر.
يرى أنصار آية الله الخميني أنهم بثورتهم في إيران قد صنعوا التاريخ، ويرى آخرون أنهم قد أفسدوا التاريخ، وأن نهاية التاريخ لم تأتِ بعد، وأنه ربما يكون شريعتي والصدر هما المنتصران في المستقبل.
تشير الأحداث في العراق وسوريا ولبنان واليمن إلى الاحتمال الأول. ولكن الدكتورة "سوسن علي شريعتي" ابنة الفيلسوف تحدثت في مؤسسة الإمام موسى الصدر في بيروت عام 2016 قائلة: كانت تجربة شريعتي والصدر مختلفة عن عصرهم، وقد فشلت التجربتان معًا. ولكن كما يقول الفيلسوف الألماني "فالتر بنيامين": "المهزومون يصنعون التاريخ".
يعيش الإسلام حربًا أهلية قد تدفع الأمة إلى حافة الهاوية. إنها الحرب الخطأ: المكسب خسارة، والنصر هزيمة. إن أمراء الحرب يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا.
نقلاً عن " الأهرام المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة