محاربة التذبذب تكون بالتدخل في الوقت الذي يقع فيه نقص أو زيادة كبيرة في فائض العرض، نتيجة لأسباب موضوعية لا نتيجة للمضاربة.
ارتفعت أسعار النفط بحدة خلال الأسابيع القليلة الماضية على وقع ترقب ثم صدور الإعلان الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، ويكاد سعر برميل نفط برنت يلامس الآن مستوى الـ80 دولارا، وهو ما يمثل إضافة بنحو عشرة دولارات إلى مستوى الأسعار الذي كان سائدا من قبل، ويغذي هذا الارتفاع بشكل أساسي توقع أن يقود إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران إلى حدوث انخفاض كبير في الصادرات الإيرانية، مما يؤدي إلى نقص كبير في العرض.
وقد سارعت بعض الجهات المسؤولة في منظمة الأوبك في أعقاب ارتفاع الأسعار إلى إبداء استعدادها لتغطية أي نقص يحدث في عرض النفط، ثم عادت وكالة رويترز للأنباء للقول بأن أربعة مندوبين في أوبك يرون أن ارتفاع سعر برميل النفط صوب 80 دولارا هو طفرة قصيرة الأمد مدفوعة بعوامل جيوسياسية وليس نقصا في المعروض، وهو ما قالت الوكالة إنه مؤشر على أن المنظمة لا تتعجل بعد إعادة النظر في اتفاقها لخفض الإنتاج. وذكرت رويترز أن البعض أعرب عن رأيه بأن وجهة نظر المملكة السعودية - أكبر مصدر عالمي للنفط - أن أي قفزة وجيزة مدفوعة بالمضاربات لا تعطي مبررا كافيا للمنتجين كي يعززوا الإمدادات.
السوق العالمية بأطرافها كافة في حاجة إلى ضبط المضاربة التي تهدف إلى مضاعفة أرباحها في أقصر فترة زمنية ممكنة، فزيادة حدة التذبذب في الأسعار يشكل إضرارا بمصالح المنتجين والمستهلكين على السواء
فهل هناك تناقض بين إبداء الاستعداد للتدخل بزيادة الإنتاج والتريث، لأنه ليس هناك ما يدفع حاليا للتدخل؟
الواقع أنه ليس هناك أي تناقض على الإطلاق، في ضوء المهمة الرئيسية لأوبك، وهي تحقيق مصالح أعضائها من الدول المصدرة للنفط، وفي ظل توفير إمدادات منتظمة ومستقرة للمستهلكين، وتحقيق عائد مناسب على رأس المال بالنسبة لمن يستثمرون في صناعة البترول، كما سبق وصرح وزير الطاقة الإماراتي الرئيس الحالي لمنظمة الأوبك، وهذا الاستقرار في الحقيقة يقتضي محاربة التذبذب الشديد في الأسعار، الذي يضر بمصالح المصدرين والمستوردين على السواء.
ومحاربة التذبذب تكون بالتدخل في الوقت الذي يقع فيه نقص أو زيادة كبيرة في فائض العرض نتيجة لأسباب موضوعية لا نتيجة للمضاربة، بما يؤدي إلى حدوث ارتفاع أو انخفاض شديد في الأسعار، أي أن التدخل يجب أن يتم بناء على حركة العوامل الأساسية من العرض والطلب، وليس بناء على مضاربة محمومة تدفعها رغبة بعض المؤسسات المالية في اغتنام الفرصة لتحقيق أرباح كبيرة في زمن وجيز، ولما كان من غير المنتظر أن يحدث أي نقص كبير في الصادرات الإيرانية إلا بعد نحو ستة أشهر فليس هناك ما يدفع الأوبك راهنا لزيادة الإنتاج، أضف إلى ذلك أن خبرات أوبك التاريخية تدفعها إلى التريث حاليا، مع بقاء العين مفتوحة إلى آخرها على ما يجري من تطورات في الأسواق.
خبرة تاريخية مهمة
ربما كانت أهم الخبرات القريبة ما حدث من تذبذب في الأسعار خلال عامي 2007 و2008؛ حيث ارتفعت الأسعار بسرعة بدءا من أكتوبر/تشرين الأول 2007 حتى بلغ سعر برميل النفط من نوع برنت أعلى مستوى تاريخي له مسجلا أكثر من 147 دولارا للبرميل في شهر يوليو/تموز 2008، لتشهد الأسعار بعد ذلك انخفاضا سريعا لتصل إلى نحو 32 دولارا في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، مع تفجر الأزمة المالية العالمية، قبل أن تعود لتسجل ارتفاعا مرة أخرى خلال عدة أشهر قليلة.
وعلى الرغم من استفادة الدول المصدرة من الارتفاع في الأسعار فإنها سرعان ما وجدت نفسها معرضة لنكسات، خاصة في توفير التمويل لموازناتها العامة مع الانخفاض السريع في الأسعار، كما أن الدول المستوردة أضيرت بالارتفاع الشديد في الأسعار، ثم على الرغم من استفادتها من انخفاض الأسعار فيما بعد فإن الانخفاض الشديد ترتب عليه خفض الاستثمارات الموجهة لخطط البحث والتنقيب واستخراج المزيد من النفط على مدى عام بنحو 20%، وهو ما أدى إلى قصور الإمدادات المستقبلية من النفط عن الوفاء بمستوى الطلب.
وكان الموقف نفسه تقريبا حدث في عام 1998، حينما سجل سعر برميل النفط أقل من عشرة دولارات في ديسمبر/كانون الأول، مما دفع إلى انخفاض حاد في مستوى الاستثمارات، مما تسبب في قصور العرض عن الوفاء بالطلب المتنامي، وهو ما ترتب عليه حدوث ارتفاع صاروخي ومنتظم في أسعار برميل النفط خلال السنوات الأربع (2003-2007).
وكانت تحركات المضاربين، خاصة هؤلاء غير المرتبطين عن قرب بسوق النفط، وراء التذبذبات الشديدة في الأسعار خلال عامي 2007 و2008، ودون أن يكون للعرض أو الطلب دخل بهذا التذبذب؛ حيث كان عدم الانضباط الذي وسم السوق يعزى بصورة أساسية لاندفاع كثير من المؤسسات المالية، وبعضها ليست لديها أي خبرة بالتعامل في سوق السلع، إلى استثمار أموالها في المضاربة على العديد من السلع، ومن بينها النفط، بعد أن أصابتها أزمة الرهن العقاري الأمريكي بخسائر مباشرة، إلى جانب الخسائر التي تكبدتها في أسواق الأسهم والسندات في مختلف بلدان العالم، علاوة على الخسائر الناجمة عن التحركات في أسعار الصرف، خاصة الدولار الأمريكي.
ويعد التدخل المتسرع في الأسواق -مثلما يطالب البعض الآن دول الأوبك وحلفاءها بزيادة الإنتاج- إيذانا بانخفاض سريع في الأسعار، ولنا فيما حدث خلال شهر مايو/أيار 2008 أسوة، حيث ضغطت الدول المستهلكة على مصدري النفط من أجل زيادة الإنتاج مع الارتفاع المتواصل في الأسعار، وعلى الرغم من أن دول الأوبك أكدت مرارا أن مستويات الطلب والعرض في الأسواق لا تبرر أبدا الارتفاع الحادث في الأسعار، وأن المضاربة هي السبب الرئيسي، حصل المستهلكون على ما يريدون في النهاية بزيادة بعض البلدان للإنتاج خلال شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2008، وكان ذلك سببا رئيسيا في الانخفاض الشديد الذي شهدته الأسعار، لأن الأسواق لم تكن تشكو بالفعل نقصا في العرض حتى يُضخ المزيد من النفط بها.
غاية القول أن السوق العالمية بأطرافها كافة في حاجة إلى ضبط المضاربة التي تهدف إلى مضاعفة أرباحها في أقصر فترة زمنية ممكنة، فزيادة حدة التذبذب في الأسعار تشكل إضرارا بمصالح المنتجين والمستهلكين على السواء، والتدخل المتعجل -أو المتأخر- ربما يسبب مشكلة كبيرة إضافية، عوضا عن أن يكون حلا للارتفاع الراهن في الأسعار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة