لماذا تبدو إيران مهتمة مثل هذا الاهتمام بإنهاء اتفاق لن يتحقق لها من إنهائه أية مصلحة بزيادة إنتاجها
يلاحظ خلال الأسابيع القليلة الماضية تنامي نزوع إيراني بضرورة التخلص بسرعة من الاتفاق بين دول "أوبك" ومنتجين آخرين بخفض مستوى إنتاجهم بمقدار 1.8 مليون برميل يومياً.
جاءت بداية مثل هذا النزوع مع إعلان وزير النفط الإيراني منذ نحو شهر أنه يرى ضرورة التفكير في الخروج من اتفاق خفض الإنتاج بين أوبك ومنتجين آخرين قريباً؛ لأن بلاده ترى أن سعر 60 دولاراً لبرميل النفط من نوع برنت هو السعر المناسب وليس 70 دولاراً كما ترى بعض الدول الأخرى أعضاء "أوبك" الآخرين، في إشارة للمملكة العربية السعودية.
ودفع هذا بعض الكتابات المتخصصة في صناعة النفط بالدول المستهلكة إلى الحديث عما وصفته بتبدل في الأدوار داخل منظمة "أوبك"، حيث إن إيران التي كانت من بين أهم صقور المنظمة التي كانت تتبنى دوماً موقف رفع الأسعار تحولت إلى الموقف المعاكس، بينما تحولت السعودية التي كانت قائدة جناح الحمائم إلى جناح الصقور. وقد أشرنا في مقال سابق إلى خطأ مثل هذا التوصيف، واستناده إلى مقارنات شكلية تافهة لا تشكّل جوهر ما تسعى له "أوبك" باتفاقها مع المنتجين الآخرين.
وعاد وزير النفط الإيراني، يوم الإثنين الماضي، إلى القول بأنه "إذا استمرت أسعار النفط الخام في الارتفاع، فلن تكون هناك حاجة إلى تمديد الاتفاق المبرم بين "أوبك" والمنتجين غير الأعضاء لتعزيز الأسعار"، وكان هذا في أعقاب ملامسة سعر برميل النفط الخام من نوع برنت مستوى 75 دولاراً يوم الخميس 19 أبريل/نيسان، وهو ما يعد أعلى مستوى منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
وإذا كانت إيران مع إنهاء الاتفاق فوراً فهي ضد الاتفاق المعلن بتمديد العمل بالاتفاق حتى نهاية العام الجاري. وهي من باب أولى ضد أي خطط لتمديد الاتفاق مع البلدان المنتجة الأخرى -وخاصة روسيا- إلى مدى زمني طويل يصل إلى 10 أو حتى 20 عاماً، كما أعلن ذلك ولي العهد السعودي، ولقي موافقة من أغلب بلدان المنظمة، وعلى رأسهم الإمارات والكويت والعراق.
لماذا تبدو إيران مهتمة مثل هذا الاهتمام بإنهاء اتفاق لن يتحقق لها من إنهائه أية مصلحة بزيادة إنتاجها كأغلب بلدان "أوبك"؟ ربما تكمن الإجابة في محاولة إيران استمالة الدول الغربية المستهلكة خاصة الأوروبية المشارِكة في الاتفاق النووي معها؟.
ويقع هذا النزوع الإيراني في تضادّ مباشر مع الحقائق التي تكمن وراء اتفاق خفض الإنتاج؛ فالاتفاق لا يدعو إلى تبني سعر محدد، بل يتبنى منهجاً آخر هو إعادة الاستقرار للأسواق عبر خفض مستوى المخزون لدى الدول المستهلكة، بحيث تتحرك الأسعار وفقاً للعوامل الأساسية (العرض والطلب)، وليس بناءً على استغلال هذه الدول لما لديها من مخزون؛ فالواقع هو أن هذا المخزون كان يفيض عن مجرد تأمين استهلاك هذه البلدان المستهلكة لفترة محددة من الوقت، طبقاً للفلسفة المعلنة وراء بناء هذا المخزون.
كما أن الغريب أن إيران التي اهتمت للغاية مؤخراً بإنهاء الاتفاق ليست في الواقع شريكة فيه؛ إذ كانت إيران واحدة من العقبات الرئيسية قبل التوصل لهذا الاتفاق بإصرارها على عدم القبول بخفض مستوى إنتاجها، إلا بعد أن تبلغ طاقتها الإنتاجية التي كانت قائمة قبل فرض العقوبات الدولية عليها، وهي طاقة كانت قد قدرتها بما يزيد على 4 ملايين برميل يومياً. وكان أن وافقت المملكة العربية السعودية وغيرها من الدول الأعضاء على هذا المطلب الإيراني في سبيل التوصل للاتفاق.
والأكثر إثارة للدهشة أن مستوى الإنتاج الإيراني الحالي يبلغ نحو 3.81 ملايين برميل يومياً، أي أن إيران ما زالت تنتج بأقل من المستوى الذي تطالب به بأكثر من 200 ألف برميل يومياً، وهو ما يعني أنه لا يزال بوسعها زيادة إنتاجها دون أن يعترضها في ذلك حصص الإنتاج المفروضة على البلدان أعضاء "أوبك".
وبمعنى آخر أكثر وضوحاً يطرح التساؤل التالي نفسه: لماذا تبدو إيران مهتمة مثل هذا الاهتمام بإنهاء اتفاق لن يتحقق لها من إنهائه أية مصلحة بزيادة إنتاجها كأغلب بلدان "أوبك"؟ ربما تكمن الإجابة في محاولة إيران استمالة الدول الغربية المستهلكة خاصة الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي معها (فرنسا وألمانيا وبريطانيا)، بعرض أنها مع أسعار للنفط منخفضة نسبياً وهو ما يلبي مصالح المستهلكين.
والحقيقة أن المفارقة تكمن في أن بعضاً من الارتفاع الكبير في الأسعار خلال الأسبوعين الماضيين يرجع إلى الموقف الأمريكي من هذا الاتفاق النووي الداعي إلى ضرورة تعديله قبل يوم 12 مايو/أيار المقبل، وإلا نظرت الولايات المتحدة في أمر إعادة فرض العقوبات على إيران، وهي تلك العقوبات التي جمّدتها نتيجة للاتفاق.
وتقدر بعض الجهات العاملة في أسواق النفط أن إعادة فرض العقوبات ستؤثر على تصدير نحو 500 ألف برميل من النفط الإيراني خلال العام الحالي، وربما ترتفع إلى 800 ألف برميل في العام المقبل، ومن هنا يأتي الخوف من المزيد من ارتفاع الأسعار؛ نتيجة لهذا الانخفاض في عرض النفط. وربما ليس من الغريب في هذا السياق أن تأتي التصريحات الأخيرة لوزير النفط الإيراني في ذات اليوم الذي وصل فيه الرئيس الفرنسي ماكرون إلى واشنطن؛ لإجراء مباحثات مع الرئيس ترامب حول عدد من القضايا في مقدمتها قضية الاتفاق النووي مع إيران. حيث حاول ماكرون إقناع ترامب ببقاء بلاده ضمن الاتفاق مع دراسة كيفية تعديله دون العودة لفرض العقوبات على طهران.
ومن الصحيح أن السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار النفط، خاصة منذ أواخر الصيف الماضي، يعود إلى اتفاق خفض الإنتاج، ولكن ينبغي التشديد في الوقت ذاته على أن الارتفاعات الأخيرة خلال الأسابيع القليلة الماضية ترجع لقضايا جيوبولتيكية في منطقتنا يأتي على رأسها الجدل حول الاتفاق النووي مع إيران. وينبغي في الوقت ذاته التأكيد على أن هدف "أوبك" كمنظمة للدول المصدّرة للنفط (ومن بينها إيران) هو الدفاع عن مصالح أعضائها.
ويهدف اتفاق خفض الإنتاج إلى الدفاع عن هذه المصالح عبر توفير الاستقرار في الأسواق، وفي الحفاظ على الأسعار ضمن نطاق مناسب؛ فالتقلب الشديد في عائدات تصدير النفط بين عام وآخر يعد مصدر الخطر الأكبر على بلدان ما زالت تعتمد على عائداتها النفطية، حيث يعد النفط ومنتجاته هو أهم صادراتها، كما تعد هذه العائدات أيضاً المصدر الأكبر للإيرادات العامة في موازناتها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة