مع تولي بايدن مهامه الفيدرالية ستتغير الوقائع على الأرض، وتبدأ الإدارة في تبني سياسات مختلفة ومهارة أي رئيس أمريكي.
مع تولي الرئيس المنتخب جو بايدن مهام الحكم في البيت الأبيض ستدور التكهنات حول ما ستطرحه إدارته من سياسات في مناطق الحركة الأمريكية في العالم سواء مع الأصدقاء، أو الأعداء ومن خلال تبني استراتيجيات محددة وفقاً لحسابات أمريكية خالصة، وبرغم ما أعلن من رؤى وتصورات للحزب الديمقراطي أثناء وبعد انتخاب الرئيس بايدن، إلا أنه مع تولي مهامه الفيدرالية ستتغير الوقائع على الأرض، وتبدأ الإدارة في تبني سياسات مختلفة ومهارة أي رئيس أمريكي في التماهي مع ما تفرضه تطورات الأوضاع من تحديات على السياسة الأمريكية.
فعلى سبيل المثال ستحتاج الإدارة الأمريكية لترميم علاقاتها بالحلفاء في أوروبا، وعدم اقتصار العلاقات على الشراكة الأمنية، أو الاستراتيجية أو إعادة تحديد أولويات العلاقات في حلف الناتو وخارجه، وهو ما سيضعه الرئيس المنتخب جو بايدن على رأس أولوياته، كما لن يقدم على إجراءات هيكلية تمس الأمن الأوروبي، وعلاقاته بالأمن القومي الأمريكي، ولكن في حال حدوث أية متغيرات فإن الإدارة الديمقراطية ستعيد تدوير حساباتها وفقا لقاعدة المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، كما لن يتوقف الرئيس المنتخب أمام تعاملاته مع مجموعة الآسيان بأكملها وليس الصين فقط، وهو ما يعني أنه سيتعمد التركيز على التعاون مع اقتصاديات دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية لتطويق الحركة الصينية في العالم، ومن خلال إجراءات مالية واقتصادية غير مسبوقة، الأمر الذي يؤكد أن الإدارة الديمقراطية ستعطي أولويات محددة لتحركاتها خلال الـ100 يوم الأولى من عمر الإدارة، فأهم ما سيشغل الرئيس جو بايدن هو إعادة تشغيل خطوط الإنتاج المعطلة، وبناء منظومة اقتصادية جديدة، إضافة لمعالجة آثار أزمة كورونا، ومن ثم لن يكون له أولوية في التعامل مع قضايا الخارج، ومنها الملف الإيراني أو التسوية العربية الإسرائيلية، أو حسم ملفات عربية أو إقليمية فهذا غير وارد ما لم يطرأ مستجد، أو تحدث تطورات دراماتيكية في أزمة من الأزمات الراهنة، هنا ستتحرك الإدارة الديمقراطية للتعامل.
وفي كل الأحوال، فإن هناك قيودا على الحركة الأمريكية؛ أهمها أن الرئيس جو بايدن يدرك أنه استعاد أمريكا العظمى، وباعتباره رجل دولة وخبر السياسة جيدا، فإنه سيتعامل انطلاقا من هذا التصور خاصة أنه من المتوقع أن يعمل بجواره أوباما وهيلاري كلينتون مما سيدفعه للتريث في اتخاذ قراراته خاصة في العام الأول سواء على مستوى الداخل، أو في التفاعل مع القضايا الإقليمية والدولية الحالية، كما لن يدخل في صدامات سياسية أو مشاحنات عسكرية عاجلة تاركا إدارة بعض الملفات للمؤسسة البيروقراطية، وكما هو متوقع ستعود الخارجية والاستخبارات العسكرية تؤدي دورا بارزا بعد سنوات من الإهمال التي اتبعها الرئيس ترامب، ومن ثم فإن نمط السياسات وتوجهاتها سيكون منضبطا ومحددا وليس وفقا لأهواء، أو برامج مكتوبة مسبقا، كما تبدو قيود الحركة الحقيقية على سياسة الرئيس المنتخب جو بادين في ضرورة أن يعيد الوحدة للشعب الأمريكي، وأن يلم شمل الشعب بعد حالة الانقسام والاستقطاب الكبيرة والمؤثرة والتي لا تزال خطرا حقيقيا على الموقف الأمريكي، فالرئيس المنتخب كان ذكيا عندما دعا لوحدة الأمريكيين جمهوريين وديمقراطيين، لتبدأ أمريكا مسارها الطبيعي في المنظومة الدولية، وإلا فإن البدائل المطروحة لا تعمل لصالح الأمة الأمريكية خاصة مع استمرار التحدي الصيني والصعود الياباني، واستمرار المناكفات مع كوريا وإيران، وبالتالي فإن الرئيس المنتخب جو بايدن يدرك طبيعة ما يجري في الولايات المتحدة، ويسعى للتعامل معه.
في المقابل تبدو فرص التحرك الأمريكي واستعادة حضور الديمقراطيين كحزب عريق قائمة، خاصة أن السياسة الأمريكية في مجملها -داخليا وخارجيا- تحتاج إلى مراجعة والخروج من التصنيفات الكلاسيكية المتعلقة بتصنيف العالم إلى دول ووحدات مع وضد أمريكا، فالعالم ما بعد أزمة كورونا يتغير حيث تسعى الولايات المتحدة لاستمرار قيادتها للعالم، وهو أمر مسلم به في ظل ما تملكه من حسابات القوة الشاملة، والتي لا تزال تعمل للصالح الأمريكي، وليس لأي طرف آخر، ومن ثم فإن فرص الإدارة الأمريكية الجديدة ستكمن في إعادة بناء نظام أمني وسياسي واستراتيجي في العالم، وفي مناطق مهمة للسياسات الأمريكية، وعلى رأسها جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، فالإدارة الأمريكية لا يمكنها ولاعتبارات متعلقة باستراتيجية تحركها في المديين القصير والطويل الأجل لا يمكنها أن تترك الأمور وفقا لقاعدة العرض والطلب، أو حسابات المكسب والخسارة التي تبناها الرئيس ترامب وأدت إلى خسائر فادحة على السياسة الأمريكية، ومن ثم فإن عقد تسويات حقيقية وكاملة في الشرق الأوسط أو محاصرة الخطر الإيراني وتطويقه سيكون مهمًّا وسيعيد الهيبة الأمريكية المنشودة بعد سنوات من الاستجداء الأمريكي لإيران للتفاوض، أو عدم الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتغيير معالم أعقد صراعات التاريخ السياسي المعاصر لصالح إسرائيل.
ويجب التأكيد أن قيود الحركة الأمريكية سترتبط بالأساس بالمصالح العاجلة وكيفية التعامل معها، ومن ثم فإن الإدارة الديمقراطية ستضع في تقييماتها العاجلة ضرورة فرض الهيبة الأمريكية أولا مع إعادة ترتيب الأولويات، والتي لن تتغير بالمعنى المعروف بل ربما ستطرأ معطيات جديدة ستتطلب سرعة الحركة والتعامل المباشر، وهو ما قد يكون على رأس الأولويات لإدارة بايدن، والتي لن تكون –برغم التوقع بدخول أسماء عملت في إدارات ديمقراطية- إدارة ثالثة لأوباما، فهذا غير صحيح ولا يستند إلى أسس واقعية، خاصة أن فريق العمل المرشح في إدارة الرئيس بايدن يتميز بانتماء أغلبه لمراكز بحوث وخبرات سياسية عريقة، ويملكون أنساقا فكرية جيدة في مختلف القضايا، وسبق وأن تعاملنا مع أغلبهم في الشرق الأوسط، وهو ما يشير إلى إمكانية فتح قنوات للتعامل على مسارات، ولو غير رسمية لشرح وإبراز مواقفنا العربية، وكيفية التعامل مع الإدارة الديمقراطية بعيدا عن طرح قضايا هي أصلا جزء من الخطاب الإعلامي والسياسي الديمقراطي لدول العالم من قضايا الحريات والحقوق والديمقراطية والأقليات والتعددية وغيرها من القضايا المثارة، والتي كثيرا ما طرحها الديمقراطيون في سنوات سابقة كإطار للتحرك السياسي مع دول العالم، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات مع هذه الدول، وهو ما يعني أن هناك فارقا بين الطرح السياسي العام، والمصالح التي ستحكم علاقة الإدارة الديمقراطية مع دول العالم، والشرق الأوسط في القلب منه، حيث ستستمر العلاقات تحكمها منظومة كاملة من المصالح والمنافع والسياسات الواقعية، وليس مجرد إطلاق قيم محددة معروفة، ليس فقط للولايات المتحدة، ولكن للعالم بأجمعه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة