هل كان مقتدى الصدر على حق بتخليه عن تشكيل الحكومة في العراق؟ ولماذا أصبحت كل الخيارات مغلقة أمامه؟
وهل كان خروجه ذاك على العملية السياسية مزاجيًّا، أم أن وراءه أسبابا كشفت عن واقع أكثر خطرًا؟
أسئلة لم تتوفر لها أجوبة شافية بعدُ. لأن تفاصيل المفاوضات بين الكُتل السياسية لا تزال مبهمة. ولأن الكثير من الجماعات والأحزاب المتنازعة في العراق تمارس "التُّقية" في الحديث، ليس عن هذه الأزمة، بل وعن كل أزمة.
خذ على سبيل المثال، أن كل الجماعات التابعة لما يسمى "الحرس الثوري الإيراني" ترفع شعارات "وطنية"، وتدعو إلى "مكافحة الفساد"، و"تناهض الإرهاب". وتوحي بأن كل أعمالها وأعمال مليشياتها هي أعمال "خيرية".
كان بوسع زعيم التيار الصدري أن يتمسك بحق تياره في تشكيل الحكومة. على الأقل، فذلك هو ما كان موضوع الأشهر الثمانية الماضية. إلا أنه آثر أن يتخلى عن كل شيء، بما في ذلك مقاعد تياره في البرلمان. ما أحدث أثرًا زلزاليًّا في توازنات القوى. وحيث إن بدلاء التعويض جاؤوا في معظمهم من جماعات الموالاة لإيران، فقد أصبحت هذه الجماعات قوة غالبة فجأة، وتستطيع بمفردها أن تشكل الحكومة لو شاءت.
العملية السياسية فاسدة من الأساس، لأنها قامت على أسس المحاصَصة، التي جعلت الحكومة مشروع غنائم يتم تقاسمها بين مختلف الأحزاب. ووفرت بذلك الأسس لكل أعمال الفساد، حتى قاربت أرقامًا فلكية.
بعض التقديرات تذهب إلى أنها سمحت بنهب ما لا يقل عن 400 مليار دولار من أول تريليون دولار من عائدات النفط خلال الأعوام الخمسة عشر الأولى التي تلت غزو العراق.
معظم هذه الأموال ذهب إلى إيران. ما أفسد الكثير من أوجه العقوبات الدولية ضدها، ووفّر لها القدرة على ممارسة مزيد من أعمال التصعيد وزعزعة الاستقرار في المنطقة.
في نهاية هذا المطاف، اتخذ "التيار الصدري" من محاربة الفساد هدفًا له بعد انتخابات أكتوبر العام الماضي.
هذا التحوّل قدم مؤشرًا إيجابيًّا بأن العراق يمكن أن يعثر على سلطة تحارب الفساد فعلا. إلا أن انسحاب الصدر من البرلمان والعملية السياسية أعاد كرة الفساد إلى مرتعها الأول.
الجماعات التابعة لإيران تمسكت بنظام المحاصصة الطائفية. وأرادت أن تضمن حصتها، وحصة إيران، من الغنيمة.
هذا ربما كان دافعًا أول لمشاعر الإحباط. وبالنظر إلى أن الجماعات التابعة لإيران هي في الواقع قوى مسلحة، وتهيمن على العديد من المراكز في المؤسسات الحكومية، فربما بدت المعركة ضد الفساد معركة خاسرة سلفًا. لا سيما وأن أعمال التطهير كانت سوف تدفع إلى صراعات مسلحة، وانقسامات داخل المؤسسات الأمنية نفسها.
إلا أن هذا ليس هو كل شيء.
نظام المحاصصة نفسه يُملي توزيع المناصب على الأطراف المختلفة للعملية السياسية، بداية من المناصب الأولى: رئاسة الجمهورية للأكراد، ورئاسة البرلمان للسنة، ورئاسة الحكومة للشيعة. وتاليا، كل المراكز الحكومية الأخرى.
وبطبيعة الحال، فإن التحالفات هي تحالفات مصالح، وتقاسم حصص وامتيازات ومنافع. وعندما تنشأ اختناقات أو خلافات، فإن ترضيات فساد إضافية هي ما يصنع المصالحات أو التفاهمات المزيفة بين الأطراف المتنازعة.
ولكن، في الجوهر، فإن النظام ظل يتطلب تحالفا ما بين الشيعة والسنة والأكراد التي صارت تُدعى بـ"المكونات". هذه هي "العملية السياسية". وفي حين أن "الصدر" كان يريد إجراء تعديل على هذه العملية، ليعثر على تحالف قائم على أساس فكرة "حكومة أغلبية وطنية"، بحيث يمكنها أن تنتقي أطرافًا دون أخرى من داخل "المكونات"، إلا أن الطرف الآخر تمسك بأن تحمل الحكومةُ "المكونات" بكل ما حملت.
تمسك جماعات الموالاة لإيران بإقامة "حكومة توافقية" تحافظ على أسس نظام المحاصصة بين "المكونات"، كان مصدرًا آخر إضافيا للإحباط.
الآن، نشأ وضع جديد، ربما أدرك "الصدر" ملامحه، فدفعه إلى أن يعلن انسحابه من هذه "العملية السياسية".
الصدام مع الأكراد حول إدارة حقول النفط في شمال العراق أصبح صدامًا يتغلف بطابع دستوري. وهو ما دفع القادة الأكراد إلى التلميح بأنهم هم من سيخرجون أولا من العملية السياسية، ما لم تُلبِّ مطالبهم في شأن استقلال ثروات كردستان النفطية عن سلطة المركز.
"الصدر" عند هذه النقطة واجه طريقا مغلقا. فبينما هو لا يستطيع تلبية تلك المطالب، فإنه لا يستطيع في الوقت نفسه أن يبني تحالفًا قادرًا على تشكيل حكومة، ولا بأي معنى من المعاني. فترجّل.
الوضع بات من بعد ترجُّله أصعب. لأن جماعات الموالاة لإيران، والتي احتفلت بكسب جائزة مفاجئة، لن تعثر بدورها على أكراد يدعمون مناهجها الموالية لإيران.
المليشيات التابعة لإيران ظلت تهاجم مقرات الأحزاب الكردية في بغداد حتى أغلقت. وبينما كانت هي التي تقوم بأعمال القصف ضد أربيل، فقد تكفّل "الحرس الثوري الإيراني" بتأدية هذه المهمة مباشرة، خلال أشهر المفاوضات بين الكتل حول تشكيل الحكومة، لكي لا يُحرج جماعاته.
هذه الجماعات لن تتمكن من تلبية مطالب الأكراد أيضا. ولديها أسباب إيرانية أقوى من أسباب "الصدر" الوطنية. وعصا الفتوى الدستورية حول إدارة حقول النفط التي حشرتها في عجلة محاولات "الصدر" لتشكيل الحكومة، أصبحت الآن عصا غليظة في عجلة محاولاتها هي.
الأكراد يهددون الآن بالانسحاب من العملية السياسية، والعودة إلى أوضاع ما قبل عام 2003، والتي كان إقليم كردستان يتمتع فيها باستقلال غير معلن.
العملية السياسية سقطت بحكم الأمر الواقع. والطرق التي أغلقت بوجه "الصدر" إنما أغلقت بوجه رُعاتها أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة