"الحلم الفلسطيني" بعد أوسلو.. "كنتاكي" وماضٍ يرويه الغبار
قبل 20 عاما، كانت الضفة الغربية تحت القصف، وكانت واجهاتها المصنوعة من الحجر الجيري مملوءة بثقوب الرصاص وطرقها مدمرة تحت وطأة الدبابات.
كان ذلك عام 2003، وقبله بعام شنت القوات الإسرائيلية هجوما واسع النطاق على ست مدن بالضفة، بما في ذلك رام الله (وسط) استهدف مقر القيادة الفلسطينية (المقاطعة)، وعلى رأسها الرئيس الراحل ياسر عرفات.
وفي تلك المدن كان أهلها يخضعون لحظر التجول بشكل متقطع لأسابيع في كل مرة. وكانت الدبابات تجوب الشوارع، أما طائرات الأباتشي فكانت تطلق النار على وزارات السلطة الفلسطينية ومراكز الشرطة.
بيْد أنه ورغم كل ذلك، كان الأمر الجيد هو تماسك الفلسطينيين ومساعدتهم لبعضهم، وتقاسمهم الطعام أثناء حظر التجول، فتلاشت الأوضاع الصعبة بين الدمار واسع النطاق للمنازل والبنية التحتية، والاعتقالات والقتل.
وحدها أريحا المحظوظة
وحدها أريحا في الشرق، نجت من مصير جنين والخليل والمدن الأخرى التي هوجمت في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2002. وهو ما ترويه داليا حتوقة، صحفية فلسطينية مقيمة في الولايات المتحدة والضفة الغربية لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية.
كانت أريحا المدينة الأولى التي منح الإسرائيليون للفلسطينيين سيطرة مدنية وأمنية كاملة عليها، محولين مدينة صحراوية كانت هادئة ذات يوم - معروفة بطقسها المعتدل في الشتاء - إلى مركز سياحي.
في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو للسلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، كانت أريحا، أقدم مدينة مأهولة في العالم، والتي تتمتع بماض غني، تعج بالسياح.
في عام 1998، في ذروة هذه السنوات السلمية، أصبح فندق "إنتركونتيننتال أريحا" وكازينو "الواحة" المجاور رمزًا للسلام الذي يمكن أن يكون: يتردد عليه الإسرائيليون والأجانب على حد سواء، ويختلطون بالموظفين الفلسطينيين.
لكنه كان سلاما لم يتحقق قط. في أعقاب الانتفاضة الثانية عام 2000، وخاصة بعد هجوم الضفة الغربية عام 2002، تبخر قطاع السياحة الناشئ في أريحا وتوفي مصدر رئيسي للدخل.
فالفندق نفسه كان يعكس الواقع المحزن لفشل ما بعد اتفاق أوسلو. حيث كانت الغرف نظيفة، ولكن أسوأ بالنسبة للإقامة.
كانت حمامات السباحة فارغة عمليا، والردهة قاتمة وخالية من الحياة. لكن الكازينو المجاور، الذي أُغلق عام 2000، كان غريبا. بما أن اثنين من أصل 10 أشخاص آخرين، عرض المدير على داليا وصديقها أن يريهم المكان.
تقول داليا: "كان الأمر أشبه بالدخول إلى كبسولة زمنية محفوظة تمامًا".
تم الحفاظ على طاولات الكازينو بطريقة صحيحة. وتم وضع أغطية بيضاء فوق الكراسي الفخمة والأجهزة لحمايتها من الغبار والوقت، ربما في إشارة إلى الأمل في استخدامها مرة أخرى في وقت ما قريبا.
خلال وجودها في المكان، تحدثت داليا مع جمال، وهو شاب فلسطيني كان يعمل هناك خلال تلك الفترة.
يقول جمال إنه حصل على مبلغ لا بأس به من المال في ذلك الوقت، وهو ما يكفي لدفع تكاليف شهادته الجامعية.
واليوم يرى جمال أن أوسلو كانت واجهة. حيث إنه في أفضل أوقاته، كان قادرا على القيادة بسيارته ذات اللوحة الفلسطينية مباشرة إلى تل أبيب. لم يكن خائفا من التحدث باللغة العربية داخل إسرائيل.
العصر الهادئ.. ولكن!
لكن السنوات التي تلت ذلك جلبت تغييرات بدت أنها تشير إلى عصر أكثر هدوءا واستقرارا. إلا أن هذه التغييرات لم تسفر إلا عن إخفاء القوى الأساسية التي استمرت في إملاء الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة: الحكم العسكري الإسرائيلي. كما تقول كاتبة التقرير في "فورين بوليسي".
في أعقاب وفاة ياسر عرفات وانتخاب محمود عباس عام 2005، كان هناك اهتمام دولي كبير بتعزيز مكانة السلطة الفلسطينية وقدرة قواتها الأمنية على فرض القانون والنظام.
إذ تغيرت الحياة أمام أعين الفلسطينيين، حيث أصبح شارع الطيرة برام الله، مركزاً للمطاعم والمقاهي المزدحمة.
وفي أماكن أخرى، كانت هناك منافذ كنتاكي جديدة للوجبات السريعة، وشقق جديدة تماما. وظهرت مجتمعات مسورة حول رام الله، وسدّت السيارات الفاخرة الطرق المزدحمة.
ورغم أن عهد فياض (رئيس الوزراء الفلسطيني حينها) كان يتسم بتدفق غير مستدام لرأس المال الأجنبي، وكان أغلبه تحت ستار المساعدات، فإنه لم يقم إلا بتزيين الحقيقة القبيحة المتمثلة في "الاحتلال" كما يقول جمال وداليا.
ويرى تقرير "فورين بوليسي" أن حالة فياض كانت مفيدة، حيث هو الرجل الذي كان محبوبا للغرب. لقد جاء من صندوق النقد الدولي، ونفذ إصلاح قطاع الأمن، وتخلص من الجماعات المسلحة، ونفذ الإصلاح الاقتصادي، وأدخل الأدوات المالية التي طورتها الولايات المتحدة إلى سوق الإسكان في الضفة الغربية.
بمعنى آخر، فعل كل ما أراده الأمريكيون، وكل ما أراده الإسرائيليون، وكل ما أراده دبلوماسيو الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، لم يكن ذلك كافياً.
بالنسبة للفلسطينيين العاديين، كانت هذه خطوة أخرى اتخذوها لاسترضاء إسرائيل والمجتمع الدولي، لكنها لم تقربهم من المساواة في الحقوق، ناهيك عن دولة خاصة بهم.
على مر السنين، تلاشت الانتفاضة، لكنها تحولت إلى مظاهر مختلفة: "انتفاضة السكاكين"، و"انتفاضة الدهس بالسيارات"، وتكهن المراقبون وأقسم البعض أن هذه ستكون الانتفاضة الثالثة التي تسيطر على الضفة الغربية، لكن ذلك لم يحدث قط.
لقد مرت 30 عاما منذ توقيع اتفاقية أوسلو، وقد يقول البعض، لقد تغير الكثير، ولكن بطريقة ما، لم يتغير شيء. هكذا خلصت داليا في تقريرها.
وتشير إلى أنه حتى في ذروة سنوات السلام، استمرت المستوطنات بلا هوادة، وانتشرت في جميع أنحاء الضفة الغربية، حيث يقطنها نصف مليون مستوطن إسرائيلي.
وعلى الرغم من الدمار، لا يزال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش يدعو إلى "محو حوارة" في نابلس، وهي تعليقات وصفتها وزارة الخارجية الأمريكية بأنها بغيضة.
وأصبحت الهجمات والمضايقات التي يقوم بها المستوطنون تحدث بشكل منتظم في قرى ومدن فلسطينية بالضفة الغربية، مع الإفلات من العقاب إلى حد كبير.