لا تسجل محاولة الوساطة الأوروبية بكل ما قد تحمله من تنازلات انتصارا لأردوغان، وإنما هي تعقل من دولتين بحجم ألمانيا وفرنسا
"أن تصل متأخراً خيراً من أن لا تصل" يصلح هذا المثل لوصف الموقف الأوروبي في محاولة منع وقوع حرب تركية روسية في إدلب السورية.
المحاولة الأوروبية التي تبنتها ألمانيا وفرنسا بعدما بلغ العناد بالرئيسين التركي والروسي حدودا مقلقة للعالم بأسره، ليس ذلك القلق الذي تعبر عنه الأمم المتحدة في كل زمان ومكان، وإنما بمعنى الإصغاء لطبول حرب تقرع في الزاوية الشمالية الغربية من سوريا.
لم تنجح الوساطة الأوروبية حتى الآن، ولكن الدعوة التي وجهها الفرنسيون والألمان للرئيسين رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين من أجل عقد قمة رباعية تبحث في الأزمة ستبقى مفتوحة، طالما أن الحرب بين موسكو وأنقرة لم تندلع.
لا يرفض الروس فكرة القمة عموماً، ولكنهم يريديون أن يعرفوا ما الذي سوف تقدمه هذه الدعوة الأوروبية للملف السوري؟ أو بشكل أدق ماذا تخبئ وراءها؟
ظن أردوغان أن الأوربيين والأمريكيين سيتسابقون لتسليحه من أجل القضاء على عدوهم التاريخي وريث الاشتراكية في العالم، ولما رأى جنوده يتساقطون أمام أعين حلف الناتو دون أن يحرك ساكناً عرف أن قوائم الخصوم والأصدقاء لدى الأوربيين قد تغيرت
يدرك الأوروبيون جيداً خطر المواجهة العسكرية بين الأتراك والروس على قارتهم، وهذا هو السبب الأهم وليس الوحيد لمحاولة توسطهم بين بوتين وأردوغان، هم من جهة لا يريدون أن يواجهوا موجات لجوء سورية جديدة إلى بلادهم، ومن جهة أخرى لا يريدون أن يضعوا أنفسهم أمام خيارات صعبة، من قبيل الاصطفاف خلف تركيا، الشريك في حلف شمال الأطلسي، في حرب ضد روسيا "الصديقة".
ما يستخدمه الأوروبيون في الوساطة الحالية بين الروس والأتراك هو ليس التهديد بقوتهم العسكرية، وإنما استثمار علاقاتهم الاقتصادية والسياسية مع الدولتين من جهة، ومن جهة أخرى استغلال رغبة أنقرة وموسكو الواضحة بتجنب المواجهة بينهما، حرصاً على مكتسبات كثيرة تحققت للعاصمتين طوال سنوات من التعاون والتفاهم في الأزمة السورية، وملفات عديدة ذات اهتمام مشترك لهما.
صحيح أن الأوروبيين قد ساءت علاقاتهم جداً مع أردوغان خلال العامين الأخيرين، وربما لسان حالهم يبتهل من أجل وقوع انقلاب في تركيا يطيح بالسلطان كما تتحدث صحف روسية، ولكن واقع الحال اليوم يقول إن منع أردوغان من خوض مغامرة عسكرية في سوريا تنعكس سلباً عليهم وعلى العالم، هو فعل حكيم ويستحق تقديم بعض التنازلات التي ربما لم يكن للألمان والفرنسيين رغبة بتقديمها.
لا تسجل محاولة الوساطة الأوروبية بكل ما قد تحمله من تنازلات انتصاراً لأردوغان، وإنما هي تعقل من دولتين بحجم ألمانيا وفرنسا تقودان تكتلاً بحجم الاتحاد الأوروبي، وتطلان على بوابة يكبر خلفها خطر كبير بسبب من يظن نفسه شمشون العصر الحديث، فشمشون التركي ضاقت به السبل واشتدت عليه الأزمات، فوضع نفسه والعالم بأسره أمام خيار الحرب، وراح يصيح "علي وعلى أعدائي يا رب".
عندما بدأ أردوغان بحشد قواته البرية في إدلب السورية وتهديد الروس بالحرب، ظن أن الأوربيين والأمريكيين سيتسابقون لتسليحه من أجل القضاء على عدوهم التاريخي وريث الاشتراكية في العالم، ولما رأى أن جنوده يتساقطون أمام أعين حلف الناتو دون أن يحرك ساكناً، عرف أن قوائم الخصوم والأصدقاء لدى الأوربيين قد تغيرت، كما أدرك أيضاً أن الأمركيين ليسوا بوارد إشعال حرب مع الروس، إلا إن كان الأتراك وحدهم من سيحترق فيها.
المشكلة أن السلطان العثماني بالغ في تهديده للروس حتى وصل مكاناً لم يعد يستطيع العودة عنه بمفرده، الرجوع عن كل ذلك الوعيد والتهديد للدب الروسي دون حرب حقيقية لم يعد ممكنا بلا مبرر، يحتاج أردوغان لمركب يعود بها بعدما أحرق جميع سفنه التي جاء بها إلى شمال غرب سوريا، يحتاج للعودة مع رفاة جنوده بنصف خسارة ونصف انتصار.
ودون ذلك سيكون الأمر بمثابة دفعه إلى الانتحار، وبالتالي حثه على الذهاب في مغامرته إلى أقصى حدود التهور الذي سيلحق ضرره بالجميع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة