منذ أن كنا صغاراً وكنا نصطف في طابور المدرسة الصباحي، حيث يتقدم مدير المدرسة أو أحد المعلمين المقتدرين، في صبيحة يوم الثاني من نوفمبر من كل عام، لإلقاء كلمة حول وعد بلفور المشؤوم، لم يدر في خلدنا أن قابل الأيام سيوقف إحياء هذه الذكرى الأليمة
منذ أن كنا صغاراً وكنا نصطف في طابور المدرسة الصباحي، حيث يتقدم مدير المدرسة أو أحد المعلمين المقتدرين، في صبيحة يوم الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، لإلقاء كلمة حول وعد بلفور المشؤوم، لم يدر في خلدنا أن قابل الأيام سيوقف إحياء هذه الذكرى الأليمة التي تسببت في ضياع فلسطين.
اليوم تحل علينا هذه الذكرى المشؤومة بلا مقدمات ولا فعاليات ولا حتى تغطيات إعلامية. هكذا من دون أي اكتراث وكأن شيئاً لم يكن، أو كأن عجلة التاريخ قد توقفت عن الدوران، في إثبات للمقولة الرائجة أن «قصاصة ورق غيرت التاريخ». قصاصة الورق هذه، هي الرسالة التي بعث بها وزير خارجية بريطانيا آنذاك جيمس آرثر بلفور إلى الملياردير اليهودي البارون روتشيلد في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917، نيابة عن الحكومة البريطانية، وتعهد فيها بـ«إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين»، وهو وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
منذ ذلك الوقت، جرت مياه كثيرة وحروب تخللتها أنهار من الدماء سالت على أرض فلسطين، إذ في العام التالي (1918) احتل الجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللنبي فلسطين، ليفتح أبواب الهجرة والاستيطان، ويتم إنشاء عصابات «الهاغاناه» و«شتيرن» و«إتسل» وغيرها، وتسليحها بأحدث الأسلحة في ذلك الوقت، لينفجر الصراع وتتمكن هذه العصابات من إقامة «إسرائيل» في عام 1948، رغم المقاومة الشرسة والشجاعة منقطعة النظير التي أبداها الفلسطينيون بأسلحتهم البدائية.
في زحمة هذه الوعود وتطورات الأحداث في المنطقة، وانكفاء المشروع الوطني، وانشغال العرب بقضاياهم الداخلية، وحلول الإحباط محل النهوض، غابت ذكرى «وعد بلفور» عن الحضور حتى في وسائل الإعلام، حيث لم يعد ثمة متسع لإحياء مثل هذه المناسبات، ولكن إلى حين!
ما تعلمناه في المدارس وما اكتسبناه من ثقافة، وما درجنا على إحيائه، عبر انتعاش الحركة الوطنية بعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، قبل أن تتحول إلى مشروع سلطوي فاشل، يبدو أننا اليوم مطالبون بنسيانه أو على الأقل التسليم بالمقولة الزائفة عن تغيير مجرى التاريخ، فالجيل الحالي، بمعظمه، لا يكاد يدرك إلا النذر اليسير عن «وعد بلفور»، حيث ترتسم في مخيلته صورة ضبابية، وربما مشوهة عن ماهيته ودلالاته وخطورته التاريخية، وتأثير ذلك في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. يساعد على ذلك، أن «وعد بلفور» لم يعد وحده يحتل الذاكرة الفلسطينية، فهناك «وعد ترامب» الذي لم يكتفِ بتقديم فلسطين كلها هدية إلى «إسرائيل»، والاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل سفارته من «تل أبيب» إليها، بل زاد على ذلك بتقديم هضبة الجولان السورية المحتلة هدية مجانية أخرى لها معتبراً إياها «أرضاً إسرائيلية».
في زحمة هذه الوعود وتطورات الأحداث في المنطقة، وانكفاء المشروع الوطني، وانشغال العرب بقضاياهم الداخلية، وحلول الإحباط محل النهوض، غابت ذكرى «وعد بلفور» عن الحضور حتى في وسائل الإعلام، حيث لم يعد ثمة متسع لإحياء مثل هذه المناسبات، ولكن إلى حين!
يجدر بالفلسطينيين التأمل مليا بما آلت إليه الأمور، وإعادة الاعتبار لمشروعهم الوطني المرتكز أساسا إلى المقاومة وفي القلب منها الكفاح المسلح، ليس فقط من أجل إعادة وضع وعد بلفور في سياقه التاريخي القائم على سرقة الأرض والحقوق، وإنما من أجل إعادة الاعتبار للكفاح المسلح وبرنامج العودة وتحرير فلسطين واستعادة حقوق أبنائها المغتصبة.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة