تقرير: هجمات باريس تعيد دراسة الإسلام السياسي لخريطة «الأكاديميا»
شهد المجتمع العلمي في فرنسا إقبالاً على فهم الإسلام السياسي في أعقاب هجمات باريس قبل عقد من الزمان.
وطرحت صحيفة "لوموند" الفرنسية تحقيقاً لرصد تاريخ الإسلام السياسي في فرنسا ومخاطره، ومسار تطور الدراسات الأكاديمية حول الإسلام السياسي، وأهمية إعادة تأهيل البحث العلمي في مواجهة "التطرف".
ورأت الصحيفة الفرنسية أنه لطالما كانت دراسة الإسلام من أبرز محاور البحث العلمي في فرنسا، لكن هذا المجال عرف تراجعاً ملحوظاً منذ الثمانينيات، قبل أن يستيقظ من جديد على وقع موجة الإرهاب التي ضربت البلاد في 2015.
ووفقاً للصحيفة فإن فرنسا كانت في الماضي رائدة في مجال الدراسات الإسلامية، إلا أن هذا القطاع شهد تراجعاً كبيراً منذ ثمانينيات القرن العشرين.
موجة الإرهاب
وأجبرت الهجمات الإرهابية في عام 2015 السلطات الفرنسية على إعادة تحريك هذا الحقل المعرفي، الذي يظل حساساً من الناحيتين الأكاديمية والسياسية.
وشهدت فرنسا عام 2015 موجة إرهابية غير مسبوقة؛ في 7 يناير قُتل عدد من الصحفيين في مجلة شارلي إيبدو، وفي اليوم التالي أُطلقت النار على شرطية في مونتروج، ومن ثم استُهدِف سوبرماركت هايبر كاشر في باريس.
وعلى الرغم من حالة التأهب القصوى، وقعت هجمات 13 نوفمبر/تشرين الثاني في استاد دو فرانس وسان دوني والباتاكلان، وأسفرت عن نحو 150 قتيلاً ومئات الجرحى، وكانت دوافعها مرتبطة بتنظيمي داعش والقاعدة.
غياب الخبرة
ووفقاً لتحقيق الصحيفة الفرنسية، فإن الإسلام السياسي يشكل أحد أبرز التحديات التي واجهت فرنسا منذ بداية العقد الأخير، خصوصاً بعد موجة الهجمات الإرهابية، وفي وقت بدا فيه أن المخاطر تكمن في أن التطرف يستغل الجهل بالدين والقصور في الدراسات العلمية حول الإسلام لممارسة التأثير على الشباب والمجتمع.
وأوضحت أن الأزمة أظهرت أن غياب خبراء مؤهلين في الإسلاميات يجعل الدولة عاجزة عن مواجهة هذا الخطاب المتطرف، ما دفع السلطات الفرنسية لاحقاً لإعادة إطلاق برامج بحثية ومؤسسات أكاديمية لتطوير فهم أعمق للإسلام، وفهم الدين كظاهرة اجتماعية وثقافية بعيدة عن أي تبسيط أيديولوجي.
وقبل هذه المأساة، أصدر المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي في سبتمبر/أيلول 2014 "الكتاب الأبيض للدراسات الفرنسية حول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي"، محذراً من تراجع الدراسات الإسلامية في فرنسا، بينما تزدهر في بقية أنحاء العالم.
وأكدت المؤرخة كاثرين مايور-جاوين أهمية البحث العلمي العميق في النصوص الإسلامية لمواجهة تحريف الإسلام من قبل التيارات الإسلامية الراديكالية، مشيرة إلى أن الكتب الدينية الإسلامية القديمة كانت الأكثر مبيعاً عالمياً، بما في ذلك فرنسا.
وكشف التقرير عن واقع صادم: أساتذة متقاعدون لم يُستبدَلوا، قلة موجِّهين أكاديميين، ضعف إتقان اللغة العربية، وندرة الكتب العربية في المكتبات الجامعية، فيما توقفت منشورات مرموقة مثل مجلة الدراسات الإسلامية منذ 1998.
ورغم إيجابيات مثل إنشاء ماجستير في الإسلاميات في المدرسة العملية للدراسات العليا في باريس، خلص التقرير إلى أن عدد الأساتذة القادرين على تقديم هذا التعليم ضعيف للغاية مقارنة بأهمية الإسلام في المجتمع الفرنسي.
تصحيح المسار
تاريخياً، كانت فرنسا رائدة في دراسة الحضارة الإسلامية، لكن منذ الخمسينيات بدأ هذا المجال يفقد زخمه، مع محدودية الوصول إلى الميدان بعد الاستعمار، وتراجع الاهتمام من قبل الباحثين الأكاديميين، خاصة بعد صعود علوم السياسة والتاريخ والجغرافيا الاجتماعية.
وفي 1978، وجّه نشر كتاب إدوارد سعيد الاستشراق ضربة كبيرة للاهتمام بالإسلام كحقل بحثي، متهماً الدراسات الإسلامية الأوروبية بترويج الأيديولوجية الغربية وتهميش العربية والإسلام.
بين 1980 و2015، شهدت الدراسات الإسلامية في فرنسا تراجعاً حاداً، مع نقص الأساتذة الملمين بالعربية وغياب الوظائف الأكاديمية.
وبعد هجمات 2015، أدركت السلطات الفرنسية أهمية إعادة إطلاق البحث في الإسلام؛ فأطلقت وزارة الداخلية منحاً للبحث حول التطرف، وأسست "مؤسسة الإسلام في فرنسا" في 2016 لدعم الثقافة الإسلامية والمشاريع التعليمية والبحثية، رغم معوقات التمويل لاحقاً.
كما ركزت وزارة التعليم العالي على توظيف أساتذة باحثين متخصصين في العلوم الدينية الإسلامية.
وفي 2022، تم إنشاء "المعهد الفرنسي للإسلاميات" لتطوير البحث الإسلامي الأكاديمي، مع التركيز على دراسة المصادر الكتابية والتفسيرات المختلفة، بما في ذلك الدراسات حول الإسلام السني والشيعي.
ورغم بعض الانتقادات التي تربط الإسلاميات بالاستشراق أو بتأطير الدولة لخطاب الإسلام، يؤكد الباحثون أن الهدف هو البحث العلمي غير الطائفي.
ويهدف العمل إلى إنتاج معرفة دقيقة ومعمقة حول الإسلام، لإظهار أن منتجه الثقافي معقّد ومتنوّع ولا يمكن اختزاله في صورة العنف أو التطرف.
ويخلص التقرير إلى أن استمرار هذه المساعي يتطلب دعماً سياسياً طويل الأمد، معتبراً أن الاستثمار في الإسلاميات رغم محدوديته يمثل عائداً كبيراً على المجتمع الفرنسي، من خلال فهم أعمق للإسلام ودوره الاجتماعي والسياسي، ومواجهة التطرف عبر المعرفة العلمية.
ويأتي الجدل حول دور الأكاديمية في وقت تتزايد فيه المطالب في فرنسا بحصار نشاط جماعة الإخوان في البلد، وهو أمر بات محط اهتمام القيادة السياسية في البلد الأوروبي حتى على مستوى الإليزيه.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTU4IA== جزيرة ام اند امز