من يحسم الانتخابات التشريعية في تونس؟
ملامح خريطة الانتخابات التشريعية التونسية تتقاسمها ثلاث جهات: الخاسرون في الانتخابات الرئاسية، والأحزاب السياسية والمستقلون.
بعد نجاح الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية التي أجريت في 15 سبتمبر/ أيلول المنقضي تشهد الساحة التونسية إجراء بعد نجاح الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية التي أجريت في 15 سبتمبر/أيلول المنقضي تشهد الساحة التونسية إجراء الانتخابات التشريعية في 6 أكتوبر/تشرين الجاري، وسط منافسة قوية بين الأحزاب الرئيسية، لتعويض خسارتها في انتخابات الرئاسة، ومحاولة تحقيق نتائج تُعيد لها ثقلها في البرلمان.
وهذه الانتخابات التشريعية التي تأتي بين دورتين رئاسيتين، هي الثانية منذ إقرار دستور جديد للبلاد، وبعد الانتخابات الأولى في عام 2014؛ تلك التي أفرزت فوز حزب "نداء تونس" بالأغلبية، ليقود بعد ذلك حكومة ائتلافية مع "حركة النهضة" الإخوانية، سرعان ما تصدعت بعد عامين من الحكم.
إلا أن الملاحظة الأهم، فيما يخص المشهد السياسي الحالي على الساحة التونسية، أن الأحزاب التقليدية مثل "تحيا تونس"، و"نداء تونس" وحركة "النهضة" الإخوانية اللذين يملكان أكبر كتلة في البرلمان، فضلاً عن أحزاب اليسار والمعارضة، تواجه خطر البقاء على الهامش في حال لم تتغير نوايا التصويت لدى التونسيين، وهو ما يؤشر إلى مشهد سياسي مُغاير تماماً لما عرفته الساحة في هذا البلد منذ عام 2011.
تداعيات الجولة الأولى
واقعيا، تأتي توجهات التغير في ملامح المشهد السياسي كمسألة منطقية لما أسفرت عنه نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التونسية التي سبقت الانتخابات التشريعية بثلاثة أسابيع فقط، والتي نتج عنها تأهل اثنين من المترشحين لخوض الجولة الثانية، لحسم الإجابة عن التساؤل: من سيكون الرئيس التونسي القادم؟. بعد أن قدما برامج انتخابية تقوم على القطع مع السياسات الحالية للدولة في معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
الأول هو أستاذ القانون الدستوري "المستقل"، قيس سعيد، الذي يعتمد على خطاب شعبوي يتوجه إلى الجمهور مباشرة، ويرتكز على أن حزبه الوحيد هو الشعب؛ والثاني هو رجل الإعلام نبيل القروي الموقوف بتهم مخالفات مالية، والذي يعتمد أيضاً على خطاب شعبوي مصحوب بتقديم مساعدات وخدمات واسعة في المناطق الأكثر احتياجاً.
ويعني هذا أيضاً أن الانتخابات الرئاسية كانت قد أطاحت بمرشحي أكبر الأحزاب السياسية، إلى الدرجة التي لم تستطع معها هذه الأحزاب استعادة الأنفاس، وتنظيم حملات انتخابية، بخصوص الانتخابات التشريعية، تكون قادرة على جذب انتباه الناخبين الذين أطاحوا بكل من أحزاب المعارضة والأحزاب الحاكمة. والدليل على ذلك، حالة "الفتور السياسي" التي تتبدى لدى الناخبين بعد انطلاق الحملات الانتخابية للتشريعية منذ أسبوعين.
ملامح خريطة الانتخابات التشريعية
بالطبع لا يعني ذلك "الفتور" أن تشهد الانتخابات التشريعية مقاطعة واسعة من الناخبين؛ كما لا يعني أن الناخبين التونسيين غير مبالين بهذا الاستحقاق الانتخابي، لكنه يؤشر إلى وجود رغبة واضحة لدى الناخبين في معاقبة النخبة التي شاركت في الحكم خلال السنوات الأخيرة، ولم تنفذ ما وعدت به على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي.
وبالرغم من احتمال أن تتشابه توجهات التصويت في التشريعية مع تلك التي تبدت في الانتخابات الرئاسية التونسية فإن عدد المرشحين لهذه الانتخابات هو عدد كبير للغاية، حيث يتنافس أكثر من 15 ألف مترشح، للفوز بمقاعد البرلمان البالغ عددها 217 مقعداً. ويتوزع هؤلاء على 1507 من القوائم في جميع الدوائر الانتخابية، التي يصل عددها إلى 33 دائرة، من بينها 27 دائرة داخل تونس، و6 دوائر في دول المهجر. وتتوزع القوائم الانتخابية بين 163 قائمة ائتلافية، و687 قائمة حزبية تُمثل الأحزاب السياسية، و722 قائمة انتخابية مستقلة.
والملاحظ، هنا أن ملامح خريطة الانتخابات التشريعية التونسية تتقاسمها 3 جهات: الخاسرون في الانتخابات الرئاسية، والأحزاب السياسية، والمستقلون.
فمن جهة، قرر بعض المترشحين الذين خسروا في الانتخابات الرئاسية التونسية، خوض الانتخابات التشريعية؛ ففي الوقت الذي اعتمد فيه البعض منهم على النتائج "الإيجابية" التي حققها في الجولة الأولى من السباق الرئاسي، كمثال: قرر عمر منصور، الذي حصل على نسبة 0.81% في الانتخابات الرئاسية، الترشح بشكل مستقل في الانتخابات التشريعية عن دائرة تونس الأولى، وبذلك سيدخل سباق التنافس مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي. كما قررت رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسى التي حصلت على نسبة 4.02% في الرئاسية، خوض السباق لأجل الوصول إلى البرلمان. وهو نفس ما يقوم به آسفي سعيد، الذي حقق 7.11% في الاستحقاق الرئاسي.
المستقلون وإشكالية الأحزاب التقليدية
أما من جهة الأحزاب فلا يبدو حزب النهضة الإخواني ومنافسه حزب نداء تونس، الفائز في انتخابات 2014، قادرين على الإمساك بزمام اللعبة السياسية؛ إذ استفاد حزب تحيا تونس الذي أسسه رئيس الوزراء يوسف الشاهد، من تراجع نداء تونس، ومن الانشقاقات التي ضربت صفوفه، وقيام عدد من قياداته بالالتحاق بـ"تحيا تونس"، سعياً للوصول إلى مقاعد البرلمان. أما حركة النهضة فهي تدخل المنافسة في جميع الدوائر، فضلاً عن ترشح زعيم الحركة راشد الغنوشي على رأس القوائم الخاصة بها في العاصمة، أملاً في الحصول على منصب رئيس البرلمان أو تشكيل الحكومة لتعويض فشل الحركة في انتخابات الرئاسة.
إضافة إلى ذلك، يدخل حزب "قلب تونس"، ومؤسسه نبيل القروي، الانتخابات التشريعية بحافز كبير مدعوماً بترشح زعيمه للجولة الثانية من السباق الرئاسي، في إطار ما أصبح يُعرف بـ"التصويت العقابي" ضد النخبة الحاكمة وممثليها، الذين لم يقدموا حلولاً اقتصادية واجتماعية للتونسيين، منذ عام 2011.
وأخيراً، يأتي المستقلون الذين خصص لهم قانون الانتخابات التشريعية ثُلث مقاعد البرلمان؛ حيث يخوض المئات من المترشحين سباق التشريعية بشكل مستقل، على أمل التمكن من تحقيق نجاحات قوية، حسب رأي الكثيرين، مثل قيس سعيد المرشح المستقل في السباق الرئاسي.
وهكذا، فإن "رياح التغيير" التي شهدت الساحة التونسية أول مؤثراتها في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، سوف تصل إلى الانتخابات التشريعية؛ بل قد تُفضي إلى مشهد سياسي جديد وبرلمان مكون من كتل صغيرة.
مشهد سياسي تونسي جديد
ما يؤكد هذا الاحتمال الأخير، أي أن يتكون البرلمان التونسي من كتل ليست بالكبيرة، أنه مع تقدم العديد من الأحزاب للانتخابات التشريعية، يكون من المتوقع أن يضطر الحزب الفائز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان للتوافق مع أطراف أخرى، ليتمكن من تحصيل الغالبية. هذه الأغلبية تصل إلى 109 من المقاعد داخل البرلمان، وهي في الوقت نفسه الأصوات المطلوبة للمصادقة على تشكيل الحكومة ومُصادقة البرلمان.
وهنا، يتضح أننا أمام مشهد سياسي جديد تتضح ملامحه على الساحة التونسية، فالتجربة التونسية التي تشهد تحولاً في المسار السياسي منذ عام 2011، تدخل اليوم إلى انعطاف تاريخي نتيجة لعدم قدرة الأحزاب التقليدية، والنخبة الحاكمة عموماً، خلال السنوات الماضية، على تحقيق طموحات التونسيين الاقتصادية والاجتماعية، فقد أدى استمرار تونس بالاعتماد على الاقتراض لحل مشكلاتها الاقتصادية، وبالنظر لمستوى الدين الخارجي المرتفع والمتفاقم، وانعكاساته السلبية على حياة الكثير من التونسيين، نجد أنه ساهم في تغير التوجهات السياسية لدى نسبة ليست بالقليلة من الشعب التونسي؛ إذ لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من تحقيق نقلة اقتصادية توازي ما تحقق سياسيا.
وفيما يبدو، فإن البرلمان الجديد سيصبح أكثر تنوعا، وقد يزداد فيه عدد المستقلين وممثلي الأحزاب الصغيرة، بالقدر الذي سيؤثر على نوعية التحالفات داخل البرلمان، لتشكيل الحكومة التونسية الجديدة.