لا يهم المقابل الذي يدفعونه للمهربين أو الموت في سبيل المحاولة.. فعبور القناة الإنجليزية يعني اللجوء إلى بريطانيا.
للمهاجرين أسباب مختلفة تبدو منطقية وتستحق المغامرة، وكأن لسان حالهم يقول إن النتيجة -أيا كانت- ستحررهم من واقع أسوأ يعيشونه في بلادهم أو على الضفة الفرنسية من القناة.
حتى الآن يصعب على الحكومة البريطانية وقف الهجرة غير الشرعية عبر القناة، وهي واحدة من الأزمات التي وُلدت بعد "بريكست"، لأن المملكة المتحدة فقدت حقها في إعادة اللاجئين إلى دول القارة العجوز التي تصدّرهم إليها، ولم تُبرم اتفاقا مع الاتحاد الأوروبي في هذا الشأن بعد الخروج.
رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، يعتقد أن إبرام مثل هذا الاتفاق قد ينهي الأزمة من جذورها، خاصة إنْ ترافق مع تسيير دوريات مشتركة مع فرنسا في القناة.
لكن باريس ترفض الأمر برمته، وتصر على تذكير لندن مراراً وتكراراً بالميزات التي خسرتها مع فقدانها العضوية الأوروبية.
لن يستفيد الفرنسيون على المدى الطويل من تحويل "كاليه" ومدن ساحلية شمالية لتجمعات مهاجرين غير شرعيين، فتُجار البشر، الذين يأخذون من المستضعفين أموالهم وأجسادهم، لن ينشروا في المناطق الفرنسية سوى الجريمة والاضطراب، وعشرات أو مئات آلاف الأجانب سيشكلون تهديدا لأمن الدولة، ويضعون السلطات أمام استحقاقات كبرى إن فشلوا في الوصول إلى بريطانيا.
رغم ذلك، لا أحد يعرف متى يقرر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، التعاون مع بريطانيا، ولا يقصد في ذلك اجتماع وزراء ومسؤولي البلدين لتنسيق ملاحقة مهربي اللاجئين، وإنما تجاوز فكرة "معاقبة" المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وإبرام الاتفاقيات الفعالة وذات المنفعة معها.
دون الاتفاق مع فرنسا، تبدو خيارات الحكومة البريطانية قليلة.. والأزمة المتصاعدة تضعها في مرمى نيران المعارضة بالداخل.
زعيم حزب العمال، كير ستارمر، يأخذ على وزيرة الداخلية، بريتي بايتل، غلبة القول على الفعل في مواجهة الأزمة، ولكنه لا يجرؤ كثيرا على الترحيب بالمهاجرين، لأنه يعرف أن نسبة ليست قليلة من القاعدة الشعبية للحزب تتبنّى رفض حكومة المحافظين للمهاجرين.
ولا شك أن "باتيل"، ذات الأصول المهاجرة، تنتمي إلى صقور المحافظين في أزمة اللاجئين، ولكنها لا تمتلك حلولا حقيقية للأزمة، طالما أن فرنسا ترفض التعاون مع بلادها.
ولأجل هذا تجد "باتيل" نفسها أمام مساءلة مجلس العموم كلما عبرت دفعة جديدة من المهاجرين إلى إنجلترا، أو غرق بعضهم في القناة.
تقول الأرقام إن حكومة "جونسون" منعت نصف محاولات الهجرة غير الشرعية إلى سواحل بريطانيا هذا العام، لكن القوارب التي نجحت حملت أكثر من ستة وعشرين ألف لاجئ حتى الآن، وذلك مقارنة بنحو ثمانية آلاف وخمسمائة لاجئ العام الماضي، وأقل من ألفي لاجئ في العام الذي سبقه.
اللجوء حق لكل إنسان بموجب القانون الدولي، سواء رغبت "باتيل" في ذلك أم لم ترغب.. والوزيرة إما لا تستمع للمسؤولين الذين أطلعوها بالتأكيد على اتفاقيات الأمم المتحدة والأوروبية ذات الصلة، وإما أنها تعتقد أن هذه المعاهدات قد تُعدّل نفسها بشكل غامض إذا ما استمرت في نكرانها والتهرب منها.
الإعلام البريطاني يقول إن "عدوانية باتيل تجاه عابري القناة خلقت خشية من أن يتعمد خفر السواحل استهداف قوارب المهاجرين وإغراقها".. وهي مبالغة يُراد بها تصوير شدة إصرار الحكومة على حل الأزمة، خاصة أن المملكة المتحدة كانت تعتبر المحيطات مانعا طبيعيا يحصّنها من المهاجرين.
إن لم تفلح الحكومة في إعادة اللاجئين إلى فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، لن تستمر في إنقاذهم مرغمة للأبد.. ستبحث عن أماكن أخرى لاحتجازهم فيها على بعد آلاف الأميال من حدود المملكة المتحدة، أو ربما تعيدهم إلى دولهم التي قدموا منها.. فهم من وجهة نظر "باتيل" مجرد "مهاجرين اقتصاديين" لم يأتوا إلى بريطانيا هربا من الموت، أو فرارا من حروب مشتعلة في أوطانهم.
الأمر الوحيد، الذي تؤمن به وزارة الداخلية البريطانية، هو أن المهاجرين يأتون إلى بريطانيا من أجل الحياة المجانية.. تراهم مشاريع عاطلين يعيشون على مساعدات الدولة ويستنزفون ضرائب العاملين في القطاعين العام والخاص، ومتطفلين يرهقون الخدمات العامة في مجالات النقل والصحة والتعليم وغيرها.
الرئيس الفرنسي يلفت إلى سبب آخر يشجع المهاجرين على القدوم إلى المملكة المتحدة، ألا وهو فرصة الحصول على العمل بـ"الأسود" كما يُقال.. وتعني أن يعمل المهاجر سرا دون علم الدولة، فيتهرب من الضرائب ويدخر الأموال.. وهو في الوقت ذاته يحصل على كل أشكال الدعم من الحكومة.
ثمة جزء يسير من المهاجرين يفعل ذلك ويثير نقمة الشعب البرطاني قبل حكومته، ولكن الدعم الحكومي ليس هو السبب بالنسبة للبقية.. فهناك من يحلم بلم شمل عائلته، وآخر يرغب في العيش ضمن تجمعات من أبناء جلدته لا تتوافر في أي بلد أوروبي مثل بريطانيا، ناهيك بإغراء اللغة الإنجليزية.
لا تُلام الحكومة على المساواة بين اللاجئين والمواطنين في الحقوق والواجبات.. وتراجعُها عن هذه المساواة سيمثل هزيمة لقيم يؤمن بها البريطانيون فعلا وليس قولاً.
لن يكون حل أزمة الهجرة غير الشرعية بتغيير معايير جودة الحياة والرفاهية بالنسبة للسكان، ولن يكون أيضا عبر إغراق المهاجرين.
ربما تتعارض جميع الحلول مع رغبة الحالمين بالجنة البريطانية، ولكن المحافظين لن يدخروا جهدا لحل الأزمة.
لقد اختار البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي ليستعيدوا "السيطرة" على حدودهم، وحكومتهم تصر على ذلك، حتى لو اقتضى الأمر بناء سور فوق مياه القناة، كما تتندّر وسائل إعلام محلية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة