تشهد فرنسا هذه الأيام حراكاً سياسياً كبيراً بمناسبة اقتراب موعد انطلاق الحملة الانتخابية للاستحقاق الرئاسي التي ستقام الجولة الأولى منه في 23 أبريل من العام القادم 2022 في حين تجرى الجولة الثانية يوم 7 مايو من نفس السنة.
ولعلّ أهمّ ما يميّز هذه الحركة السياسية والانتخابية هو الصعود الكبير لكتلة ما يسمّى باليمين المتطرّف الذي تجسّمه مرشّحة حزب "التجمّع الوطني" مارين لوبان من جهة، في منافسة مع الكاتب الصحفي المثير للجدل أريك زيمور، والذي من المنتظر أن يعلن عن ترشّحه في الخامس من الشهر المقبل، وكتلة اليمين المتطرّف هذه تعطيها استطلاعات الرأي قرابة 35 في المائة من نوايا التصويت.
وإذا كان اليمين الفرنسي يمثّل تقليدياً الأغلبية في الجسم الانتخابي، فإنّ اللافت في هذه المرحلة، التي تسبق الانتخابات، هو تراجع اليمين التقليدي "الحزب الجمهوري"، والذي من رموزه التاريخية جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وتعطيه نفس استطلاعات الرأي قرابة 30 في المائة من نوايا التصويت.
ويعلّق هذا اليمين الجمهوري المعتدل أهمّية قصوى على اختيار المرشّح المناسب في الانتخابات التمهيدية للحزب في الرابع من الشهر القادم علّ ذلك يعطيهم دفعة قويّة تساعدهم على التقدّم في استطلاعات الرأي وتجاوز مرشّحي اليمين المتطرّف واجتياز الدورة الأولى في انتخابات السنة المقبلة لمواجهة محتملة مع الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.
الملاحظة الثانية هي التراجع الكبير لليسار التقليدي الفرنسي، والذي لم يصمد فيه تقريباً سوى جون لوك ميلونشون، الذي يتميّز بحلوله الراديكالية والشّعبوية.
الملاحظة الثالثة التي ميّزت هذه المرحلة التمهيدية للاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل هي المزايدات بين كافّة المرشّحين بخصوص الوعود الانتخابية، والتي هي -وبحسب جلّ الملاحظين- في غالبيتها وعود طوباوية وغير قابلة للتحقيق، وهي وعود لا تنطلق من الممكن تحقيقه ولكنّها عموماً استجابات غير عقلانية لطلبات مواطنية ومجتمعية سقفها يرتفع باطراد، وقد تجلّى ذلك بالخصوص في حركة "السترات الصفراء"، التي سبقت جائحة كورونا، وهي حركة غير منظّمة، ولكنّها رغم ذلك كادت تسحب البساط من تحت أقدام المنظمّات النقابية التقليدية، والتي اضطرّت لضمان استمرارها إلى الترفيع في سقف طلباتها انسجاماً مع المطالب الشعبية وحتّى الشعبوية منها.
ومن تجلّيات الطابع اللا عقلاني للطلبات، كذلك ازدياد وتيرتها في وقت اشتدّت فيه الأزمة الاقتصادية بسبب جائحة كورونا، ولكنّ المفارقة هي أنّ الدوافع السياسية والانتخابية ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام المعارضة، دفعت السلطات الفرنسية في أغلب الأحيان إلى الاستجابة لبعض هذه المطالب رغم طابعها المشطّ وغير العقلاني.
وخلاصة القول هنا، إنّ المشهد السياسي والانتخابي في فرنسا يطغى عليه من جهة اليمين ومحاور اليمين ومنها بالخصوص المحور الأمني في ارتباطه بالهجرة والمهاجرين، ومن جهة ثانية فهو مشهد محكوم بمحور المقدرة الشرائية، الذي كان مسرحاً لمشاريع حلول جلّها شعبوي وغير عقلاني، إلّا أنّ استقرار مؤسّسات الدولة وتوفّر عنصر الكفاءة لدى العاملين فيها واستقلالية الإدارة تحصّن الديمقراطيات عموماً ضدّ الانحرافات الشعبوية وضدّ التعدّي على قيم الجمهورية، لتنتهي هذه الانحرافات تقريباً بانتهاء الاستحقاق الانتخابي.
وأمّا إذا كانت هذه الانحرافات تحدث في دول تتميّز بعدم استقرار الديمقراطية والمؤسّسات وبانعدام عنصر الكفاءة، فذلك نذير خراب للدول والمجتمعات.
ومن انعدام الكفاءة تصوّر أنّ الحلول الطوباوية والشّعبوية ممكنة التطبيق ضدّ منطق الأشياء وضدّ العقل، وهو الأمر الذي يفسّر لماذا تمثّل مِثل هذه السلوكيات فواصل قصيرة جدّا، وحتّى هامشية، في الديمقراطيات المستقرّة، ذلك أنّ العقل السليم على وعي بأنّ الشعبوية تقود حتماً إلى رفع سقف الطلبات من جانب المواطنين وإلى الوعود الزائفة والحلول الطوباوية غير ممكنة التطبيق من جانب المسؤول.
والحسّ السليم يعي تماماً أنّ الحلول الطوباوية والشّعبوية، إن كانت قناعة راسخة لدى المسؤول، فتلك هي الكارثة التي تقود إلى الدمار والخراب المجتمعي، ولو هي حلول مقدَّمة من طرف المسؤول وهو على وعي تامّ باستحالة تطبيقها، فذلك يندرج في التحيّل السياسي والانتهازية.
ويبقى على الأمم والشعوب أن تعي بأنّ إعمال العقل يمكن أن يغطّي على ضعف الإمكانيات، وأمّا إذا أنعم الله على أمّة بوفرة الإمكانيات وبالمسؤول الوطني والعقلاني والحكيم والكفء، فذلك هو المدخل الضامن للتفوّق والتميّز.
نقلا عن البيان الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة