جاء أتاتورك محاولاً إظهار مسحة من التسامح بين الأتراك، ولهذا اتّخذ القرار الخاصّ بِـ"آيا صوفيا"، وبهدف إفساح الطريق للتعايش السلميّ
هل يمكن أن ينسحب تعبير قُطَّاع الطريق على القضايا الأدبيّة والأخلاقيّة، والمسائل الإنسانيّة والعقلانيّة؟
يعرف العالم قولاً وفعلاً أن هناك قُطَّاع طرق يترصّدون المارّة في الأماكن الموحشة ليسلبوهم ممتلكاتهم وبضائعهم، وأحيانًا حيواتهم، غير أن تتعرّض معاني خلاّقة من نوعيّة التسامح والأخوّة الإنسانيّة لنوع من قُطَّاع الطريق فربّما يكون الأمر مستجدًّا، ما يستدعي الانتباه وبأقصى سرعة لتلافي النتائج السلبيّة القائمة والقادمة.
ليس سرًّا أن ما قام به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأيام القليلة الماضية، تجاه كاتدرائيّة "آيا صوفيا"، ذلك التراث الثقافيّ والإنسانيّ، والذي يُعَدّ ملكًا للبشريّة برُمَّتها، هو ضرب من ضروب قطع الطريق على التسامح، ووضع عقبات كؤود أمام مسارات ومساقات الأخوّة الإنسانيّة.
لتسعة قرون ونيّف كانت "آيا صوفيا"، رمزًا مسيحيًّا، ولأربعة قرون تقريبًا صارت مسجدًا، ولنحو قرن من الزمان متحفًا يحمل رائحة التعايش الإنسانيّ، ويقفز على أزمنة الظلام الذي حلّ بتركيا خلال سنوات العثمانيّين الظلاميّة.
ليس سرًّا أن ما قام به أردوغان الأيام القليلة الماضية، تجاه كاتدرائيّة "آيا صوفيا"، هو ضرب من ضروب قطع الطريق على التسامح، ووضع عقبات كؤود أمام مسارات ومساقات الأخوّة الإنسانيّة.
قصّة هذه الكاتدرائيّة تحمل درسًا من دروس التاريخ، درسًا يتمحور حول التعايش الواحد، ونسيان الماضي الأليم، وعدم الرجوع إلى الوراء ولربّما استشعر الزائر لِـ"آيا صوفيا"، طوال المائة عام الماضية عبق التسامح خلال سعيه داخل أرجاء هذا البناء الذي جمع سيرة ومسيرة إمبراطوريّات إنسانيّة عبرت التاريخ البشريّ منذ قسطنطين، ثم جوستنيان، مرورًا بِـ"محمد الفاتح"، ووصولاً إلى أتاتورك.
نعم، ربّما لم يكن التاريخ الخاصّ بالكاتدرائيّة كلّه صفاءً ذلالاً أو سخاءً رخاءً، لكنّه بدرجة أو بأخرى استطاع الجميع في نهاية الرحلة أن يبلوروا نوعًا من أنواع الحوار الذاتيّ الذي يسمح بالحياة ويرفض الموت.
قرار الرئيس التركيّ جاء في توقيت مؤلم للعالم برُمّته، حيث الموت على الطرقات ينتشر، لا يفرق بين جنس ولا لون، ولا يقيم حسابًا للدين أو المذهب، وفي هذا التوقيت تذكّر الجميع تلك المبادرة الإنسانية الخلاقة التي قادتها الإمارات العربيّة المتّحدة، مبادرة وثيقة الأخوّة الإنسانيّة، والتي سعت في تطبيقها خلال الجائحة.
مثير شأن أنقرة إلى حدّ أنه ممجوج ومرفوض، ففي حين ترسل الإمارات طائراتها المحمَّلة بالمساعدات الإنسانيّة لبقيّة أرجاء العالم حيث العوز الإنسانيّ، ومن غير مساءلة عن هويّة المرسَل إليهم الدينيّة، ما يعني إقامة جسور مع الآخر، نرى أردوغان يوجّه رصاصة قاتلة إلى صدر فعل التضامن الإنسانيّ، بل يعزّز الانقسامات الدوجمائيّة، وويل للعالم من أزمنة تتصاعد فيها إرهاصات الصراعات الدينيّة، حيث يتناحر البشر من غير فائدة وبدون طائل.
إحدى أهمّ النقاط الغائبة عن الأعين في القراءة التاريخيّة لملف "آيا صوفيا"، والذي لم تتوقّف عنده وسائل الإعلام شرقًا وغربًا في الأيّام الماضية: "لماذا قام أتاتورك بتحويل المسجد إلى متحف؟
هناك ما يثير شهيّة الباحث عن السبب الرئيس، وبالتنقيب والبحث اتّضح لنا أن أتاتورك الرجل الذي أنهى مرحلة تركيا الاستعماريّة والتوحّشيّة حول العالم عامّة، ومع جيرانها خاصّة، حاول أن يوسم عصره بشيء من التسامح مع الآخرين. تسامح يضحي عنوانًا لتركيا المدنية وليس تركيا المهيمن عليها من الإسلام السياسي المكذوب عبر العصور، من زمن الفتنة الكبرى، وحتى حسن البنا وإخوان الشياطين.
حين استلم أتاتورك حُكْم البلاد، كانت تركيا ترزح تحت عبء أكبر إبادة في القرون الحديثة، إبادة الأرمن، حيث قتلت تركيا نحو مليون ونصف أرمنيّ، وشرَّدَتْ أضعافهم، في جريمة لا تقلّ بشاعةً عن الهولوكوست النازيّ ضدّ يهود أوربا في القرن العشرين.
جاء أتاتورك محاولاً إظهار مسحة من التسامح بين الأتراك، ولهذا اتّخذ القرار الخاصّ بِـ"آيا صوفيا"، وبهدف إفساح الطريق للتعايش السلميّ والحفاظ على عامل تراثيّ مشترك يجمع المسيحيّين والمسلمين على الطريق، ومن غير أن يفرق بينهم بسبب بناء مهما علا شأنه.
على أرض الإمارات العربيّة المتّحدة، رفع "عيال زايد" راية الأخوّة الإنسانيّة، حين اجتمع تحت سماوات هذا البلد الأيقونة، بابا الفاتيكان رأس الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة، وشيخ الجامع الأزهر الشريف أكبر مرجعيّة للإسلام السنّيّ في أوقاتنا الحاضرة والماضية.
يأتي أردوغان اليوم ليحاول نَزْع هذه الراية، من خلال عدم إظهاره أيّ مشاعر احترام أو مودّة لمسيحيّي العالم ومسلميه، أولئك الساعين إلى قلب صفحة العداوات التاريخيّة، وفتح طرق الأخوّة والمودّة الإنسانيّة.
هل كان على الرئيس التركي أن يتذكر كيف أن الخليفة عمر رضي الله عنه، حين دخل القدس رفض أن يصلي في كنيسة القيامة، كان وازعه أنّه لا يريد ان يترك من ورائه أيّ تأثير يدفع المسلمين في قادم الأيّام على القيام بتغيير جوهريّ في أصول الكنيسة أو تحويلها إلى مسجد، ولو شاء لما كان هناك ما يردعه، غير أن عمر كان من العدالة التي تنهى عن أخذ ما ليس له.
لم يشأ البابا فرنسيس نهار الأحد الماضي، أن يعزّز من روح الانقسام حول العالم من جراء الفعل التركيّ المذموم، واكتفى الرجل بالقول: "إن البحر يحملني بفكري إلى مكان بعيد، إلى إسطنبول، حيث أفكر بِـ"آيا صوفيا"، وأشعر بألم كبير.
يؤدي قطع الطريق على التسامح ولا شك إلى ألم بالغ في القلوب والعقول والنفوس الرفيعة القدر حول العالم، وبنفس المنطق تكلّم العديد من علماء الإسلام السمح الذين يرفضون أعمال أردوغان، الرجل الذي أراق دماء المسلمين من العراق إلى سوريا، ومن اليمن إلى ليبيا، والذي يبرع في الغزل على أوتار المتناقضات التاريخيّة منذ حلّ بموقعه في السلطة.
القرآن الكريم مليء بالألفاظ والمعاني، ما يترجم معنى التسامح إلى واقع. فالدعوة القرآنيّة إلى العفو والإحسان، والبرّ والقسط في حقّ الغير، ممن لم يقاتلنا في الدين، ولم يُخرجنا من ديارنا، هي دعوة للتسامح، ومثلها "لا إكراه في الدين"، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبالحكمة والموعظة الحسنة، واحترام كرامة الإنسان، واللين والمعروف، وسعة الصدر التي تُفسِح للآخر المختلف أن يعبّر عن رأيه، حتّى لو لم يكن موضوع تسليم أو قبول، فضلاً عن العدل في المعاملة دون تمييز حتّى مع المغايرين والمخالفين، والوفاء بالعهد لأهله، مهما اختلفت عقائدهم ولغاتهم وألوانهم، وقيم الرحمة تجاه العالمين والتى تعني قبول الآخر المغاير.
وفي كل الأحوال فقد أظهر أئمّة وفقهاء المسلمين في زمن المدّ الحضاريّ الخلاّق، أريحيّة واسعة وعريضة للتسامح، ما يعني أنّ قيم التسامح وثقافته في تلك العصور العربيّة والإسلاميّة الزاهية، تحوّلت إلى قيم أخلاقيّة معاشة، لا شعارات جوفاء مردّدة، وثقافة مجتمعيّة بأبعاد فكريّة ومعنويّة وسياسيّة واجتماعيّة وحقوقيّة، وهي أيضًا "القدرة على تحمّل الرأي والرأي الأخر"، والتعايش مع الآخر في سياق الاختلاف والوئام الإنسانيّ.
يأمل المرء أن يقف العالم وقفة رجل واحد أمام "قُطّاع طريق التسامح والأخوة الإنسانيّة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة