كان "أبا إيبان"، وزير الخارجية الإسرائيلي، هو الذي صك عبارة أن الفلسطينيين لا يتركون فرصة دون أن يفقدوها.
وكان الرد الفلسطيني دوما هو أنه لم تكن هناك أبدا فرصة حتى يمكن فقدانها.
ما يهمنا في الأمر هو أنه في كل منعطف للقضية الفلسطينية، فإن الفلسطينيين خرجوا منه خاسرين بينما ربح الإسرائيليون إما أرضا وإما اعترافا أو دولة أو أشكالا كثيرة من التوسع وقوة الدولة.
تعداد ذلك منذ قرار التقسيم عام 1947 لن يسمح بضرب أمثلة، ولكن فرصة واحدة انتهزها الفلسطينيون حققت لهم كيانا سياسيا واعترافا دوليا على أرض فلسطينية لأول مرة في التاريخ.. الفرصة كانت "اتفاقيات أوسلو"، التي انتقلت بموجبها منظمة التحرير الفلسطينية من المنفى في صورة "السلطة الوطنية الفلسطينية"، إلى أرض فلسطين في الضفة الغربية وغزة ولها عنوان في "رام الله".
وبينما كان ممكنا أن تكون هذه الفرصة طريقا إلى تحقيق كثير من المكاسب التي تقود إلى دولة فلسطينية مستقلة، فإن الأصابع الفلسطينية سرعان ما أخذت تفقد الإمكانيات في الفرصة الجديدة.
وكما هي العادة على طول العهود والعقود، فإن الانقسام الفلسطيني كان حادا إلى الدرجة التي تفقد فيها السلطة الفلسطينية فرصتها عندما بدأت منظمة "حماس" في القيام بحزمة من العمليات الانتحارية، التي لم توقف فقط عملية بناء السلطة الفلسطينية، وإنما جاءت بحكومة نتنياهو الأولى عام 1996، وفي النهاية وبعد انتفاضة فلسطينية عسكرية فاشلة استولت "حماس" على السلطة في غزة.
وقبل أن تقوم الدولة الفلسطينية، إذا بها تتحول إلى كيانين سياسيين، ولم يكن ذلك جديدا، فقد سبقه منذ الستينيات من القرن الماضي الانقسام بين "فتح" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ثم انقسمت الأخيرة إلى واحدة شعبية وأخرى ديمقراطية، وبعد ذلك نمت وترعرعت منظمات أخرى.
الجديد هذه المرة أن الانقسام صار جغرافيا بقدر ما أصبح ديمغرافيا وأيديولوجيا.
لم تكن إسرائيل بعيدة عن المسؤولية، فقد كان استكمال السيطرة على أراض فلسطينية جديدة بعد حرب يونيو 1967 خانقا للشعب الفلسطيني.. وكان ذلك مرتبطا دائما بالتوسع والضغط على الفلسطينيين من أجل الهجرة.
الغريب أنه خلال هذه الفترة الطويلة فإنه لا الفلسطينيون ولا العرب اتبعوا سياسة للمقاطعة أتاحت لإسرائيل مساحات كبيرة للاستيطان والاستيلاء وترجمة طموحاتها إلى واقع.
ومع إدارة ترامب فإن إسرائيل رفعت سقف طموحاتها باتخاذ القدس "الشرقية والغربية" عاصمة لها، وبدأت في الامتداد الاستيطاني في المنطقة "سي C" المقررة للفلسطينيين، وفوق ذلك أعلنت ضم الأراضي السورية المحتلة.
جرى كل ذلك بينما الفلسطينيون منقسمون، وبينما كلاهما يتفاوض مع إسرائيل بأشكال شتى، وبينما يطالبون جميع العرب بالمقاطعة بينما تدريجيا يندمج الفلسطينيون في الدولة الإسرائيلية، سواء من خلال عملة واحدة، وسوق اقتصادية وعمالية واحدة، ونظام واحد للضرائب والرسوم الجمركية، ويكتفون بكثير من الشعارات الرنانة، والصداقة والتحالف مع دول جوار معادية لكثير من العرب.
أكثر ما غاب عن الفلسطينيين كان التعلم من التجربة الإسرائيلية في العمل الصبور لبناء الدولة وتحقيق أهدافها.
الآن ربما يبزغ ضوء جديد في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية وسط كثير من الضباب والغيوم الناجمة عن تراث عميق من الفشل.. هذا الضوء يعود إلى تحركين لا بد أن هناك رابطا مهما بينهما.
التحرك الأول أمريكي عبرت عنه وزارة الخارجية الأمريكية يوم الثلاثاء 28 ديسمبر، في أن الحوار الاقتصادي الأمريكي الفلسطيني "USPED" اجتمع مرة أخرى لأول مرة منذ أكثر من خمس سنوات. إذ قالت وزارة الخارجية في بيان: "أقر المشاركون بأهمية استعادة العلاقات السياسية والاقتصادية بين الحكومة الأمريكية والسلطة الفلسطينية، وتعهدوا بتوسيع وتعميق التعاون".
وضم الوفد عددًا من كبار المسؤولين الدبلوماسيين والتجاريين، بما في ذلك مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، يايل لمبيرت.
وقالت "لمبيرت" للمسؤولين الفلسطينيين: إن حكومة الرئيس جو بايدن تريد "الحرية والأمن والازدهار" للأراضي الفلسطينية. وقالت أيضا: "نمو الاقتصاد الفلسطيني سيلعب أيضًا دورًا حاسمًا في دفع هدفنا السياسي الشامل: حل الدولتين المتفاوض عليه، مع دولة فلسطينية قابلة للحياة تعيش جنبًا إلى جنب بسلام وأمن مع إسرائيل".
عُقد الحوار الاقتصادي الأمريكي الفلسطيني آخر مرة في مايو 2016، قبل أن يتولى الرئيس السابق دونالد ترامب منصبه في توجه متشدد ضد الفلسطينيين.. والآن وعدت إدارة "بايدن" بإعادة فتح القنصلية الأمريكية في الأراضي الفلسطينية، واستعادة المساعدات التي تم قطعها في عهد ترامب.
والتحرك الثاني إسرائيلي وسط حكومة إسرائيلية منقسمة بشدة، فإن المبادرة جاءت من "بيني جانتس"، وزير الدفاع الإسرائيلي، ومع تأييد صامت من الحكومة بدأ في أغسطس الماضي الاتصالات مع السلطة الوطنية الفلسطينية، حيث قام بزيارة "رام الله"، وفي المقابلة مع الرئيس محمود عباس بدأت سلسلة لا بأس بها من إجراءات الثقة بين الطرفين تضمنت إضفاء الشرعية على إقامات مئات من الفلسطينيين في القدس، وإتاحة فرص أكبر للعمل داخل إسرائيل، وتخفيف قيود الحركة داخل الضفة الغربية.
وفي يوم الثلاثاء الماضي "أي موعد بدء الحوار الفلسطيني الأمريكي" قام الرئيس عباس بزيارة وزير الدفاع الإسرائيلي في منزله بإسرائيل في أول زيارة من هذا النوع منذ عام 2014.
النتائج لا تختلف كثيرا عما قبل، وإن كانت تتوسع فيه بقرض قدره 500 مليون شيكل إسرائيلي، وأعلن أن الزيارة كانت لفتح "أفق سياسي" يمهد الطريق لحل سياسي.
هي فرصة ونقطة بداية وطاقة نور جديدة، كان من الطبيعي والمعتاد أن يعترض عليها المتطرفون في إسرائيل وفلسطين معا، وبقي أن نعلم أن الفرصة سوف يجري البناء عليها ولن تضيع مثل كثير قبلها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة