تمثل شخصية إيدسون أرانتيس دو ناسيمينتو، الشهير بـ"بيليه"، نجم كرة القدم البرازيلية الراحل، الشخصية المثالية للاعب كرة قدم أو لأسطورة.
بيليه، وإنْ كان يمثل على مدار حياته رمزا للنجاح والمثالية، فإنه ربما لم يعد الصورة المثالية التي يحب أن يراها الجمهور في الألفية الثالثة.
فالأمر مرتبط بشخصية البطل في الأفلام، وكيف تحول من بطل مثالي يرتدي الزي الرسمي، ويتكلم بهدوء، لبطل يرفض التقليدي ويثور عليه، ويدخل في صراعات، ويرتكب أخطاء.. بطل غير مطالَب بأن يكون مثاليا على الإطلاق، ولا أن يكون في أفضل حال دوما، لكن بيليه، الذي رحل قبل أيام قليلة، عاش حياة كان فيها دوما البطل المثالي، حتى عند ارتكابه الأخطاء.
كان الطفل الأكبر لوالديه.. أبوه كان لاعبا للكرة في فريق فلومينيزي الشهير، ولكن بسبب تعرضه لإصابة أنهت مسيرته، عانت الأسرة ماليا، وهو أمر كاد يتسبب في رفض العائلة -تحديدًا الأم- ممارسة الابن الأكبر كرة القدم، الابن الذي غيّر تاريخ السليساو الكُروي.
وقد ساعدت هذه القصة أيضا بيليه في كتابة فصل جديد من مثاليته عبر مساعدة عائلته ماليا، وقبلها وعده الشهير في سن تسع سنوات لوالده بأنه سيجلب كأس العالم للبرازيل، يوم خسارة لقب نسخة 1950 بسبب الهزيمة 1- 2 أمام أوروجواي.
3 كؤوس عالم في ظرف 12 سنة.. إنجاز لم يحققه أي لاعب في تاريخ اللعبة، حتى لو لعب عشرين عاما، حتى لو وصل إلى مكانة ليونيل ميسي ودييجو أرماندو مارادونا وكريستيانو رونالدو، لكن هناك صفات أخرى تفضلها الجماهير أكثر من المثالية، وهي التي منحت الاستثنائية الخاصة لدييجو مارادونا.
لقد نجح بيليه رسميا أكثر من مارادونا. اختار الفيفا بيليه كلاعب القرن، ولكن الجمهور صوّت لمارادونا وبفارق شاسع ورهيب.. 56% للأرجنتيني و18% فقط للبرازيلي.
بيليه كان الفائز الرسمي بلقب الأفضل في القرن العشرين، ولكن الناس لا تفضل دوما مَن يفوز رسميا.. الفائزون رسميا ليسوا دوما الاختيار الصائب والصحيح، فأصحاب البدل الرسمية تقليديون، يقومون بكل شيء على ما يُرام، لا يجذبون انتباه الشباب الرافض للمثالية.
حتى على صعيد الاسم، سُمّي بيليه "إدسون" على اسم مخترع مصباح الكهرباء، والعديد من الاختراعات الأخرى، وعُرف بين أصدقائه في المدرسة بأنه شخص لا يثير المشكلات، وكانوا يسخرون منه لهذا السبب، ويبدو أن زملاءه كانوا أول صف من الجماهير الرافضة مثاليته.
وحتى اسم "بيليه"، الذي أطلقه زملاؤه في المدرسة عليه كان سخرية منه، لأنه لم يكن يقدر على نطق اسم "بيلي"، حارس مرمى البرازيل وقتها، بالشكل الصحيح، ولكن لأن بيليه كان سعيد الحظ اكتشف لاحقا أن اسمه يعني في اللغة العبرية "المعجزة".
حتى في أحلامه كان بيليه يمثل الطبقة الوسطى في الدول النامية، حلم بأن يكون قائد طائرة، ثم قرر أن يتراجع عن الحلم بعدما سقطت طائرة بجوار منزله وذهب إلى المستشفى فشاهد جثة الطيار، فقرر أن يغير الاتجاه نحو حلم آخر.
بيليه ابنٌ سار على نهج والده وورث عنه وظيفته، بل حتى الأرقام القياسية، فهناك رقم قياسي لدوندينيو، والد بيليه، فشل الابن الأسطوري في الوصول إليه، وهو تسجيل 5 أهداف برأسه في مباراة واحدة.
عمل بيليه في السياسة بعد نهاية مسيرته الكروية، حيث عيّنه الرئيس البرازيلي السابق فيرناندو كاردوسو، وزيرا للرياضة في 1995، وأشيد به لجهوده في محاربة الفساد على مدار فترة عمل بلغت 3 سنوات.. مثالية مفرطة ومنصب رسمي.
في يونيو 2013، كان يتعرض لانتقادات حادة بسبب آرائه المحافظة، وخلال مظاهرات شعبية اندلعت وقتها، تعرّض لنقد حاد من قبل الشعب البرازيلي حين طالبهم بالتوقف عن المظاهرات ودعم منتخب بلادهم في المونديال، الذي ستنظمه البرازيل في العام التالي، 2014، وفي كأس القارات التي لُعبت في 2013 كبروفة لاستضافة الحدث الأكبر.. طلبٌ أثار الغضب لكنه ترجم شخصية الأسطورة الراحل.
ورغم أن علاقته بمارادونا في الفترات التي سبقت وفاتهما كانت جيدة، خرج بتصريحات ضد دييجو عام 2010، وإن كانت لم تتجاوز الحقيقة، لكنها استفزت الفتى الأرجنتيني، وعكست النظرة التي ينظر إليها الوزير السابق للاعب تم طرده من كأس العالم لأنه يتناول المنشطات، رغم "ادعاء" دييجو نفسه أنه تناولها "بناء على اتفاق مع إدارة الفيفا".
قال بيليه وقتها: "مارادونا ليس مثالا يحتذى للشباب، إنه محظوظ.. كانت لديه موهبة إلهية في كرة القدم فقط"، وهنا رد عليه دييجو: "مَن يكترث ببيليه؟!، مكان بيليه في المتحف الآن".
ردٌّ ساخر وفوضوي وجريء يفضله كثيرون على المثالية المفرطة.
ورغم ذلك كان الاثنان يخرجان من حين إلى آخر في وسائل الإعلام وهما يلتقطان الصور التذكارية ويتبادلان الابتسامات.
بيليه ومارادونا خلقا تنافسية من نوع خاص، فهما لم يتواجها في مباراة كرة قدم رسمية لأن كل لاعب لعب في عصر مختلف، الأول أنهى مسيرته في الملاعب الأمريكية حين كان الأخير يتحسّس معالم الطريق.
من أشهر صور بيليه مع مارادونا صورتهما والأول يمنح الثاني بعض التعليمات قبل مباراة ودية لُعبت في 8 أغسطس 1987 بين نجوم الدوري الإنجليزي الممتاز ونجوم بقية العالم، ضمن احتفالات مرور مائة عام على بدء منافسات البريميرليج.
يظهر بيليه في الصورة بالزي الرسمي وهو يمنح التعليمات، بينما يقف خلفه مارادونا وإلى جواره ميشيل بلاتيني، وهما ينصتان بأدب جم كأنهما في حصة مدرسية.
ورغم أن بيليه كان قد اعتزل قبلها بقرابة 10 سنوات، بينما مارادونا كان بطل العالم قبل سنة واحدة، ظهر النجم البرازيلي أكثر رشاقة من الموهوب الأرجنتيني في مشهد يعكس مثالية مفرطة وجنونا ضاربًا.
عمل بيليه كسفير للنوايا الحسنة وكسفير للأمم المتحدة، حيث كان دوره حماية البيئة ومحاربة الفساد في بلاده.
روماريو، نجم البرازيل في كأس العالم 1994، والمعروف بالمزاج المتقلب الذي تسبب في رحيله عن برشلونة بعد أشهر قليلة من تتويجه بالمونديال، دخل حربا كلامية مع بيليه وطالبه بعدم التدخل في شؤونه حين طالبه بيليه بالاعتزال في عام 2005، وخلال الفترة نفسها وصفه بيليه بأنه "جاهل"، بسبب زعم فتى التسعينيات بأنه سجّل أهدافا أكثر من بيليه.
وفي الوقت الذي حامت فيه الشكوك بشأن الإهمال الطبي في وفاة دييجو أرماندو مارادونا، كان بيليه يموت على سرير المرض في المستشفى وسط أهله وأحبائه.. "ميتة مثالية" بلا أي شبهة.. لتكتمل أسطورته المثالية من المهد إلى اللحد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة