في المنعطف التصالحي، الذي تسلكه العلاقات السورية-التركية حاليا، ثمة خطّان متعرّجان فيهما كثير من المطبات والتضاريس.
وهذه بدورها تتطلب التعامل معها ومعالجتها من كلا البلدين، لأنها لم تعد مفيدة لطرف على حساب آخر، والعكس بالعكس.. بحيث أصبحت عبئا على الطرفين في حال استمرارها بسبب ما تفرضه على كل منهما من تحديات، وبقدر ما تنطوي عليه من معضلات، فإنها تحوز أوراقا مفيدة لم يتمكن عقد من زمن الصراع من طمسها أو إلغائها ولا حتى القفز فوقها.
لقاء موسكو بين وزيرَي الدفاع السوري والتركي تحت المظلة الروسية يتجاوز في مضامينه عُقدة كسر الجليد، بل يمكن اعتباره تجسيدًا لإرادة سياسية منضبطة ألهمتها المصالح العليا للجارين سبلَ المضي قدما، مستفيدة من عامل مؤثر وفاعل مشترك تجسده روسيا، حيث تداخلت مصالح الأطراف الثلاثة وتشابكت بين تكتيكية واستراتيجية، وشكلت حوافز عملية لتحويل التحديات المتراكمة إلى فرصٍ تقتضي استثمارها قبل تلاشيها وضياعها في مهب التحولات الناشئة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
هل يمكن أن تؤسس لغة المصالح بحمولاتها السياسية والأمنية والجيوسياسية لتفاهمات مستدامة بعد أن عاين الجانبان السوري والتركي، وعانا أيضا من خيارات التصادم والخلاف؟
أكثر من عشر سنوات من الخلاف تركت جروحًا مختلفة بينهما. تقدمت حسابات الغد على نزوات الماضي وما أفرزته من معطيات، أو بالأحرى من عقبات.. الانتقال من مرحلة اللقاءات الأمنية إلى حيز المفاوضات على مستوى وزاري رسمي ومعلن تعطي الانطباع بأن ما تحقق في سياق التواصل الأمني قد مهّد الطريق للانخراط الفعلي في عملية نزع الألغام من قبل الجانبين، ورسم معالم واضحة لمسيرة التصالح بناء على متطلبات مصالح مشتركة عادت لتتقدم على سواها من الاعتبارات، التي حكمت مسيرة السنوات السابقة.
تدرك تركيا أن مصلحتها في طي صفحة الخلاف، وذلك بناء على دوافع داخلية وخارجية واحتياجات تركية لا بد من توفيرها لبناء الثقة مع جارتها، كما تدرك سوريا أن مصلحتها تكمن في تلبية احتياجاتها الداخلية الملحة والمتعددة سياسيا وأمنيا واقتصاديا، إضافة إلى طمأنة أنقرة حيال هواجسها الأمنية، وكلاهما يجد في الدور الروسي جسر عبور للقاء مع الآخر، ذلك أن روسيا، المرتبطة بعلاقات ومصالح حيوية كثيرة واستراتيجية عميقة مع تركيا وسوريا، تشكّل قاسما مشتركا بينهما، وتسعى بناء على ذلك إلى الريادة في إحداث تحولات جذرية في ملف علاقات الجارَين، انطلاقا من أهدافها القريبة والبعيدة على المستويات الإقليمية والدولية المتعلقة بمصالحها وبمكانتها من ناحية، ومن ناحية أخرى تحقيق أهدافها لدى كل منهما.
فعلى الجانب السوري، تمثل موسكو حجر الرَّحى في أي عملية سياسية، وكل ما يترتب على نتائجها الإيجابية من مكاسب جيوسياسية واقتصادية، فضلا عن ترسيخ كيانها كدولة عظمى، وعلى الجانب التركي، تعمل على حفظ علاقاتها المتوازنة معها والاستثمار فيها عبر عدد من الملفات السياسية، مع الناتو والغرب، والعسكرية المتعلقة بالنزاع الروسي-الأوكراني باعتبارها الدولة المرشحة للعب دور الوساطة لإنهاء النزاع، بما تملكه أنقرة من مقومات وعلاقات مع الأطراف جميعها، علاوة على المسار الاقتصادي، إذ تتطلع موسكو لأن تكون أنقرة ممرًّا لسلعها من الطاقة والغاز والقمح إلى الخارج.
قطار التصالح السوري-التركي تجاوز محطته الأولى بعد الاتفاق على خط السير بتريث، وبعد أن تم تشخيص مواقع الألغام وتحديدها من قبل الجانبين خلال لقاءات قادة المؤسسات الأمنية والعسكرية، تمهيدا للمحطة قبل الأخيرة، حيث دبلوماسية البلدين ودورها في تأطير ما سبق ضمن اتفاقات وتفاهمات رسمية تُعبِّد الطريق نحو المحطة الأخيرة، وهي لقاء الرئيسين السوري والتركي.
لم يعرف التاريخ خلافًا استمر إلى ما لا نهاية بين طرفين، سواء أكانا دولتين أو إمبراطوريتين أو كيانين، كان لا بد من منعطف يغير المسار.. بعض المنعطفات جاء على شكل انتصار طرف على آخر، وبعضها نتج عن نقاط التقاء أنتجتها مصالح متقاربة ومشتركة، كما الحال بين سوريا وتركيا.. حيث ضغط الاحتياجات الملحة لكل منهما على مختلف الصُّعُد والاتجاهات، ولذلك ربما يكون من المبكر الحديث عن مكاسب.. مع الأخذ في الاعتبار التحولات الداخلية والإقليمية والدولية، التي أفرزتها أحداث سوريا على العلاقات بمستوياتها المختلفة، فإن الوقائع والوشائج، التي رسختها علاقات الجارين خلال عقد من الزمن سبق تفجر أحداث سوريا عام 2011، لا يزال ماثلا ويمكن البناء عليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة