لم تخف الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا دعمها لمرشح اليمين «فرانسوا فيون» في الرئاسيات المرتقبة، وهو الذي أعلن انتماءه الكاثوليكي
لم تخف الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا دعمها لمرشح اليمين «فرانسوا فيون» في الرئاسيات المرتقبة، وهو الذي أعلن انتماءه الكاثوليكي والتزامه بمواقف دينه في المسائل المجتمعية الرئيسية، مثل الإجهاض والزواج المثلي، بما خلف ردة فعل عارمة في الساحة السياسية في البلاد التي قننت العلمانية الصارمة إطاراً ناظماً لتدبير الموضوع الديني.
دخول المؤسسة الكاثوليكية في المعترك الانتخابي نظر إليه على نطاق واسع بأنه تحول نوعي في مسار الحياة السياسية، رغم انحسار أشكال التدين التقليدي وتراجع الولاء للدين في النسق الاجتماعي العام، وانطواء الكنيسة على نفسها منذ عقود طويلة.
الفيلسوف الكاثوليكي «بول فالادييه» دافع عن الموقف السياسي للكنيسة الفرنسية من منطلق حق نفاذ المعتقدات الدينية إلى المجال العمومي بدلاً من أن تظل حبيسة الضمير الفردي والوعي الشخصي، معتبراً أن للمسيحية تصوراتها المجتمعية المبنية على قيم الانسجام والعدالة والخير المشترك، فلا يمكن للمسيحي أن ينفصل عن معتقداته المجتمعية في خياراته السياسية وإلا كان منفصم الشخصية، متناقضاً مع نفسه.
«فالادييه» في رده على رئيس الحكومة السابق «امانويل فالس» الذي انتقد بشدة تدخل الكنيسة في الصراع السياسي اعتبر أن دور الدين في العمل السياسي لم ينقطع أبداً في الديمقراطيات الغربية، وإن ظل قوة موجهة ومنبع دلالة وقيم، دون أن يكون له تأثير مباشر في العملية الانتخابية.
وبخلاف الساحة الأميركية التي يحضر فيها الدين في مستويين: الديانة العمومية المشتركة التي تشكل مرتكزاً من مرتكزات الهوية الوطنية للأمة الأميركية، والطوائف الدينية التي لها دور قوي في المجتمع المدني، وبالتالي في الحراك الاجتماعي بجوانبه السياسية.. تحافظ الديمقراطيات الأوروبية على فصل حاسم بين الدين والدولة حتى في البلدان التي ترعى فيها الدولة الحقل الديني وتعتمد دستورياً كنائس وطنية.
دخول المؤسسة الكاثوليكية في المعترك الانتخابي نظر إليه على نطاق واسع بأنه تحول نوعي في مسار الحياة السياسية، رغم انحسار أشكال التدين التقليدي وتراجع الولاء للدين
لا يتعلق الأمر إذن بتغير في الأنظمة القانونية لترتيب وتسيير علاقة الدين بالدولة في مجتمعات يطبعها التعدد في المنظور القيمي الجوهري، ولم يعد الدين فيها هو الخيار الأوحد المتاح في تدبير العيش، بل مجرد خيار بين خيارات أخرى، كما أن الدين لم يعد هو مرجعية القيم الاجتماعية العمومية إلى حد القول مع عالم الاجتماع «مراسل غوشيه» بأن ما تعيشه أوروبا هو «الخروج من الدين». ومع ذلك تعرف المجتمعات الغربية في مجملها عودة المسألة الدينية إلى واجهة الاهتمام السياسي في سياق يفسره البعض بالتحدي الذي يطرحه الوجود الإسلامي في هذه المجتمعات وما ارتبط به من أحداث إرهاب وتطرف، في حين أن خلفيته العميقة تتجاوز «التحدي الإسلامي» وتتعلق بظاهرتين أساسيتين هما انحسار «الديانات التعويضية» الحديثة التي هي الأيديولوجيات التنويرية والوضعية التي لم تعد قادرة على توفير الوظائف التفسيرية والمعيارية للدين، وتراجع نموذج الدولة القومية الذي كان التجسيد التاريخي للمطلقات الدينية من حيث تصوراتها للسيادة والتمثيل والقداسة.
إن هذه الأزمة المضاعفة في المستويين الأيديولوجي والسياسي هي التي تفسر انفجار الهويات الدينية في قلب المجتمعات الأوروبية، كما تفسر عودة الدين إلى الحقل الفلسفي من منظور مراجعة إرث التمييز بين دائرة الاعتقاد الفردي والمجال المدني العمومي. لقد أطلق الفيلسوف الألماني «يورغن هابرماس» على هذا التحول عبارة «الحالة ما بعد العلمانية»، ويعني بها الانفصام بين مسار العقلنة الاجتماعية الذي هو مفتاح العصور الحديثة، ومسار التفاعل التواصلي الذي لم يعد من الممكن إقصاء الدين منه للحاجة إليه في تنشيط القيم العمومية المدنية.
لا يعني هابرماس بعودة الدين إلى المجال العمومي التفريط في مكاسب الحداثة السياسية، من حرية وعي وتعددية وفصل بين الدين والدولة، وإنما يعني الإقرار للدين بحقه في المشاركة في النقاش المدني بشرط ترجمة مضامينه إلى لغة العقل العمومي، أي اللغة البرهانية المستخدمة في النقاش التواصلي، فلا يمكن اختزال قبول الدين والتسامح معه في مفهوم الحماية الثقافية «لنوع مهدد بالانقراض».
ما نريد أن نخلص إليه هو أن «عودة الدين» إلى المجال العمومي في المجتمعات الديمقراطية الغربية لا يعني الرجوع إلى العصور الدينية الوسيطة، بل هو في حقيقته مظهر لأزمة عميقة في مفهوم السياسة التي ارتبط مسارها الحديث بتراجع الدين وبالطموح إلى تعويضه بالدولة الشمولية المطلقة التي هي، حسب عبارة هيغل، ديانة العصور الحديثة.
*نقلاً عن " الاتحاد "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة