ستتأثر سياسة أمريكا بالانسحاب من أفغانستان، رغم كل ما يتردد بأن "بايدن" اتخذ القرار حتى قبل وصوله إلى "البيت الأبيض" ضمن برنامجه الحزبي.
ورغم ما يقال أيضا بأن "بايدن" أنهى التورط الأمريكي التاريخي في الأزمة الأفغانية، والتي كلفت الولايات المتحدة الكثير، فهذا الانسحاب سيكون مُكلّفا، ومن زاويا عدة:
أولا: شعبية الرئيس بايدن، والتي تهبط بصورة كبيرة وفقا لاستطلاعات الرأي العام المتداولة في مراكز البحوث الأمريكية الكبيرة، الأمر الذي يؤكد أن "بايدن" سيدفع ثمنا لإدارته والإدارات السابقة، وبعد تحول المواجهة الأمريكية ضد تنظيم "داعش خراسان" الإرهابي، فإن الرئيس الأمريكي سيواصل دفع الثمن الكبير لما سيجري في أفغانستان، خاصة أنه لن يستطيع الانسحاب الكامل، بل سيدخل في مواجهات من نوع آخر، لن تقتصر على المواجهة المباشرة، بل على مواجهات استخباراتية كبيرة ستدفع فيها الإدارة الأمريكية تكلفة جديدة من بقائها في "البيت الأبيض"، لكن "بايدن" ليس أمامه خيارات بديلة.
ثانيا: يبدو التوافق قائما بين الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، بشأن المواجهة الجديدة في أفغانستان، خاصة أن الدول الكبرى، مثل روسيا والصين، سيكون لها دور ما زال في مرحلة التأهب والاستعداد للقادم، إضافة إلى أن إنشاء مناطق آمنة ربما يكون الحل المرحلي حال تدهور الأوضاع الأمنية في أفغانستان، وهو أمر وارد في ظل رهانات تبدو مطروحة عن مواجهات محتملة بين تنظيم "داعش خراسان" وبين الحكومة الأفغانية الجديدة، التي ستتشكل فقط حين يقتنع العالم بأن "طالبان" ستتعامل مع الخطر المحتمل، وهو ما يجب تفهم تبعاته الحقيقية على الموقف الأمريكي بأكمله، والذي سيظل محل جدال في الكونجرس بمجلسيه حال استمرار تضارب المواقف السياسية وتصاعد العمل العسكري، واحتمال الذهاب إلى مواجهات جديدة تدخلها الولايات المتحدة تحت سواتر معينة، وهو أمر متوقع.
وفي ظل تأكيد الكونجرس أن مسلسلا جديدا سيبدأ مع تشكيل حكومة أفغانية والتحرك الأمريكي تجاه ما سيجري، وفي ظل تقدم دول كبرى، مثل الصين وروسيا، للتعامل مع هذه الحكومة.. فلن تكون المشكلة في تعامل الإدارة الأمريكية قبولا أو رفضا، وإنما فيما سيجري من ممارسات لـ"طالبان"، وتأثير ذلك على الموقف الأمريكي بأكمله، وسط تخبط أصاب ترتيب الأولويات الأمريكية.
ثالثا: من المبكر القول إن إعلان الرئيس الأمريكي مسؤوليته عما يجري في أفغانستان مدخل للرهان على سؤال هل الرئيس "بايدن" بكل هذه الشجاعة؟، أم أنه سيعمل على خيارات مستقبلية حقيقية، بما فيها رهانه على رفع شعبيته حال استتباب الأمور وعودة الاستقرار، ولو بصورة هشة، إلى أفغانستان في الفترة المقبلة؟
إنه احتمال ضعيف في ظل قوى رئيسية متربصة بإدارة المشهد، ولن تترك الداخل الأفغاني يعمل في ظل وجود كل المحفزات لحالة عدم الاستقرار المنشود، وبالتالي سيتكرر الفشل الأمريكي، حال تكرار الانسحابات من بقاع أخرى في العالم، ليس فقط في العراق، وإنما في مناطق بآسيا ومناطق التماس الاستراتيجي، فهناك آلاف الجنود يعملون في الخارج قرب مناطق الصراعات، فهل سيكرر "بايدن" الانسحابات؟
إنْ فعلها، سيكون الخروج الأمريكي الراهن من أفغانستان مقدمة لما هو آتٍ، وهو ما سينعكس على السياسة الأمريكية في دوائر نفوذها، التي شكّلتها الإدارات الأمريكية طوال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إن الحديث عن استمرار الرئيس "بايدن" في موقعه واستكمال الولاية الأولى سيحتاج إلى مراجعة مع تقدم سنِّه، وهو تخوف جاء مسبقا قبل دخوله "البيت الأبيض"، ومن المؤكد أن الحزب الديمقراطي لديه تقديره للأمر حال عدم قدرة "بايدن" على الاستمرار، وسيعمل على طرح البديل من الآن، وربما مع منتصف الولاية الحالية.
رابعا: واقعيا، فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ستواجه حالة عدم استقرار، فمَن يراقب السياسة الأمريكية الراهنة يكتشف انشغالا لافتا -لكنه متضارب- بقضايا الأمن الاستراتيجي في آسيا، والتحرك في نطاقات أمريكية أوروبية محددة تتعلق بالناتو، وما يمكن أن تؤدي إليه اتصالات أمريكية-أوروبية بشأن التعامل مع مهددات أمن واستقرار آسيا، بل ومناطق الجوار في أوروبا، مع وجود روسي مراقِب سيستمر في مناكفة السياسة الأمريكية، التي عملت منذ إدارة "ترامب" على عزل روسيا واستمرار فرض العقوبات وتقييد الحركة الروسية في النطاق الآسيوي وجمهوريات آسيا الوسطي، كذلك في الامتدادات الاستراتيجية المطروحة.
من ثمَّ فإن السياسة الأمريكية الراهنة تتوقع الكثير من الأزمات المحتملة فيما تبقى من إطار زمني لإدارة "بايدن"، التي لن تُعطي الصراع العربي الإسرائيلي أولوية كبرى، عكس ما كان يُطرح في الدوائر العربية، وأن دورها سيكون نتاج الحركة العربية الإسرائيلية، كما أنها لن تجري وراء إيران للعمل معا في مفاوضات حقيقية، مع تأكيدات أمريكية أن إيران ستصل إلى العتبة النووية خلال أسابيع عدة.
الرسالة الآن أن الأولويات المطروحة للسياسة الأمريكية ستتبدَّل بالفعل، خاصة أن التركيز على قضايا الداخل وارد جدا في ظل مسعى "بايدن" للعمل على تنفيذ برنامجه السياسي والاقتصادي، الذي نجح بمقتضاه، فالإدارة الأمريكية ستُحاسَب أمام الرأي العام الأمريكي على ما حققته من إنجازات داخلية، وليس على النجاح أو الفشل في السياسة الخارجية فقط، رغم تكلفته العالية.
الرسالة الأخيرة، التي ستعمل عليها الإدارة الأمريكية، هي البقاء -بدرجة أو بأخرى- قرب مناطق نفوذها ووجودها الاستراتيجي، مع تقليل التكلفة، ولكن الإشكالية الكبرى فيما يجري بالكونجرس من محاولات لتطويع مهام الإدارة وتقليل توجهاتها في ظل مخاوف مرتبطة بمخاطر على الأمن القومي الأمريكي، وهو الأهم في أي مسارات سياسية أو استراتيجية ستحكم الحركة الأمريكية الراهنة والمقبلة.
يبقى السؤال: هل تنجح مؤسسات النظام الأمريكي العتيقة في تقييد الحركة الأمريكية، ليس في آسيا فقط، وإنما في أوروبا ومناطق أخرى مكلفة للسياسات الأمريكية، دون أن يكون لها مردود حقيقي عليها في الداخل؟ هذا هو الأهم بالنسبة للمواطن الأمريكي، الذي أتي بجو بايدن رئيسا للولايات المتحدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة