في أواخر الألفية الماضية، وتحديدا عام 1997، بلور المحافظون الأمريكيون الجدد رؤية عُرفت باسم "مشروع القرن الأمريكي".
فكرة هذا المشروع أن يكون القرن الحادي والعشرون أمريكيا بامتياز، أي ألا تنافس واشنطن أو يدانيها قوة وسيطرة على بقية أرجاء العالم أي دولة أخرى، وبخاصة روسيا، التي كان نجمها قد أفل في ذلك الوقت، أو الصين التي بدا كأنها صاعدة بسرعة الصاروخ.
مضى الأمر على هذا النحو طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والذي شهد مغامرتين أمريكيتين عسكريتين تمثلتا في غزو أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003، وعام 2010 بدا واضحا أن هناك توجها استراتيجيا أمريكيا جديدا نحو الشرق تم بلورته في استراتيجية عُرفت باسم "الاستدارة نحو آسيا".
التساؤل المطروح اليوم على مائدة النقاش الأممية، وبخاصة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: "ما مستقبل الإمبراطورية الأمريكية؟ وهل سيوفي لها الحظ في القرن الحالي كما خططت جماعة تعتقد في القدرة الأمريكية المطلقة، أم أن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون أقصر الإمبراطوريات عُمرا إذا قيست بأخرى سابقة عليها كالإمبراطورية الرومانية قديما؟
حاولت أمريكا أن تبدو صنوا حداثيا للإمبراطورية الرومانية، لدرجة أنها استلهمت أبنيتها، كالكونجرس، من مجلس الشيوخ الروماني القديم.
يخبرنا الفيلسوف الألماني شبنجلر، أن التاريخ الإنساني ليس خطا مستقيما إلى التقدم، بل هو دورات متعاقبة من النمو والانحلال، وأن كل حضارة هي أشبه بإنسان يولد وينمو وينضج ثم يشيخ ويموت.
أما المؤرخ والفيلسوف البريطاني أرنولد توينبي، فقد آمن أن التاريخ "دورات حلزونية" تولد وتنمو ثم تشيخ وتموت أيضا، لكنه يرى أن القوى الحاضرة استفادت من خبرات التجارب السابقة وستعرف كيف تتجاوز المطبات أمامها.
هنا تبدو علامة الاستفهام: إلى أي حد ومدى استفادت الولايات المتحدة من أخطاء الماضي؟
من أسف شديد، يمكن القول إن صور الانسحاب من أفغانستان تكاد تشابه أو تطابق ما جرى في فيتنام قبل نحو خمسة عقود، وتناظر الانسحاب من لبنان في أوائل الثمانينيات، وقبلهما من الحرب الكورية، الأمر الذي يجعلنا نستدعي ما قاله يوشكا فيشر، وزير الخارجية الألماني الأسبق، والذي أشار إلى أن أمريكا تكرر أخطاء الماضي من غير أدنى مقدرة على التعلم من دروس التاريخ أو أحاجي الإنسانية.
في دراسة أخيرة نشرتها مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية للبروفيسور مايكل غرين، أستاذ الدراسات الآسيوية في جامعة "جورج تاون" الأمريكية ومدير الشؤون الآسيوية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، بين عامي 2004 و2005، يطرح تساؤلا عن المصداقية الأمريكية في آسيا، وهل لا تزال قائمة أم أنها انسحقت بنوع خاص بعد ترك أفغانستان لـ"طالبان" مع كل ما يعنيه الأمر من ردّة إلى عشرين سنة سابقة؟
يرى "غرين" أن الرئيس جو بايدن دخل "البيت الأبيض" مصمما على استعادة ثقة العالم بالولايات المتحدة، ويكتسب هذا الهدف أهمية خاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، والتي أصبحت تلعب دورا محوريا لا يقل أهمية عن دور أوروبا إبان الحرب الباردة.
غير أنه وقبل أن يمضي عام على ولاية "بايدن"، يبدو وجود الولايات المتحدة وتأثيرها في تلك المنطقة في خطر، وتعزيزها سيكون مهمة شاقة، فبرنامج الصواريخ النووية مستمر في كوريا الشمالية، ودول جنوب آسيا تتطلع إلى عقد اتفاقيات بعيدا عن الولايات المتحدة، والصين تتمدد في اتجاهات عديدة.
النازلة الكبرى، التي ستجعل الآسيويين يدركون من جديد أن واشنطن دائما ما تخذل حلفاءها، تمثلت في هذا الانسحاب المرتبك والمثير للتأمل، بل وطرح الأسئلة، فكيف لقوات مسلحة تنتمي للدولة رقم واحد حول العالم أن تنسحب أمام جماعات أقل منها استعدادا عسكريا ومدنيا بفارق زمني ضخم؟ بل كيف تترك واشنطن أسلحة حديثة كفيلة بإنشاء جيش لدولة صغيرة، وهو الأمر الذي يثار حوله الجدل الكبير في الداخل الأمريكي هذه الأيام؟
يبدو الموقف الأمريكي من أفغانستان انهزاميا، ولا يشجع أيا من دول آسيا والمحيط الهادي أن تثق من جديد في الولايات المتحدة، كما سيُلقي هذا التصرف بظلاله على العلاقات الأمريكية-اليابانية بنوع خاص، وحتما سوف يدفع التيار اليميني القومي في اليابان لمزيد من الدعوات المطالبة بفك الارتباط العضوي مع أمريكا، وإعادة بناء الجيش الياباني، ومن ثم التفرغ لإعادة أمجاد الإمبراطورية اليابانية.
الثابت أن الأمر نفسه ينسحب على الكثرة الكثيرة من أصدقاء أمريكا في آسيا، مثل كوريا الجنوبية وتايوان، بل وربما يكون لأستراليا نظرة جيوسياسية مخالفة لتوجهات واشنطن، لا سيما أنها تريد أن تحيا في سلام وأمان بعيدا عن الصراعات مع الصين أو الروس.
ما مشكلة الولايات المتحدة الحقيقية، التي تجعل مستقبلها في خطر؟
في مؤلفه الشهير "نشوء وسقوط القوى العظمى"، يخبرنا المؤرخ الأمريكي الشهير بول كينيدي، أن أمريكا رغم تربعها على المنزلة السامية في المجالين الاقتصادي والعسكري، فإنها ليست بمنجاة من الاختبارين الشاقين اللذين يتحديان "امتداد عمر" كل قوة كبرى تتبوأ "الرقم واحد" في الشؤون العالمية: أي ما إذا كانت تستطيع من الناحية العسكرية والاستراتيجية أن تحتفظ بتوازن معقول بين متطلبات الأمة الدفاعية والوسائل التي بين يديها للوفاء بهذه الالتزامات، وما إذا كان بوسعها أن تصون قواعدها التكنولوجية والاقتصادية لقوتها من التآكل النسبي بوجه أنماط الإنتاج العالمي دائمة التغير.
تبدو الولايات المتحدة اليوم تمر بهذا الاختبار القاسي، وهو عينه، الذي عاشته الإمبراطورية الإسبانية عام 1600م.، وتاليا البريطانية بحلول عام 1900م.
عند نقطة معينة من التاريخ، تجد تلك الإمبراطوريات ذاتها في مواجهة التزامات استراتيجية قطعتها على نفسها في أوج قوتها قبل عقود خلت، يوم كانت متمتعة ومتنعمة بإمكانات سياسية واقتصادية وعسكرية جبارة تتيح لها التأثير على مسار الشؤون العالمية.
في هذه اللحظة تتداعى إشكالية ما يُعرف بـ"فرط الامتداد الإمبراطوري"، وفي الحالة الأمريكية يتأكد أن على صناع القرار في واشنطن، مواجهة وتحمل حقيقة أن مجموع المصالح والالتزامات الكونية لأمريكا أصبح اليوم أكبر بكثير مما بوسع البلد الدفاع عنه جميعا في وقت واحد.
هل انتصر الانعزاليون الأمريكيون، أولئك الذين يرون أن واشنطن ينبغي ألا تكون شرطي العالم، وأن جُل همها يتوجب أن يتركز في الداخل لكي تعود أمريكا عظيمة من جديد، كما نادى بذلك الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب؟
لا تبدو القضية انتصارا أيديولوجيا، بل براجماتية أمريكية تدرك أنه يتم استنزافها من قبل قوى كروسيا والصين، عسكريا أو اقتصاديا، غير أن الحقيقة المؤكدة هي أن كل مربع نفوذ ستُخليه أمريكا في آسيا أو غيرها من المواقع والمواضع حول العالم سوف تملؤه موسكو وبكين، وربما قوى صاعدة أخرى.
في كل الأحوال، تبدو الإمبراطورية الأمريكية الأقصر عمرا بين إمبراطوريات التاريخ القديم والمعاصر، فيما التساؤل الأخير قبل الانصراف: "أتكون انسحاباتها الأخيرة نوعا من مكر التاريخ الذي تحدث بشأنه الفيلسوف الألماني جورج هيجل؟ بمعنى التراجع خطوة إلى الوراء ثم القفز خطوات عدة إلى الأمام؟
الجواب معقود بناصية التاريخ.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة