شهدت أسعار النفط خلال الأسبوعين الماضيين تقلبا عنيفا، فبعد انخفاض الأسعار بنسب كبيرة عادت للارتفاع بنسب كبيرة أيضا.
هذا يدعونا إلى إلقاء الضوء على أسباب حركة الأسعار هذه بين الانخفاض والصعود خلال مدة وجيزة.
أسعار النفط نحو الانخفاض
بدأت أسعار النفط في الانخفاض حقيقة منذ أسابيع عدة، إلا أنها انخفضت مؤخرا لمدة سبعة أيام متتالية انتهت يوم 20 أغسطس الجاري، وهو ما يعد أطول سلسلة انخفاض تحدث منذ ثلاثة أعوام.
وفقد كلا الخامين "برنت" و"غرب تكساس الوسيط" ما يزيد على 6% من سعرهما في الأسبوع المنتهي يوم 20 أغسطس الجاري، مع تزايد قلق السوق من الطلب على النفط، وتزايد حالات الإصابة بالمتحور "دلتا" من فيروس كورونا وتأثيره على الاقتصادات الرئيسية.
ففي الصين أدى تسجيل إصابات بالمتحور "دلتا" إلى اتخاذ السلطات إجراءات مشددة، وسط إعلانها عن سياسة "صفر إصابة" بالفيروس، وتمثل ذلك في العديد من الإغلاقات للأنشطة الاقتصادية، وغلق ثاني أكبر ميناء في الصين أمام حركة الملاحة لمجرد اكتشاف إصابة عامل واحد بالفيروس.
وقد أدى الإجراء الأخير إلى تأخير حركة الشحن من وإلى الصين.
وترافقت هذه الإجراءات مع إجراءات أخرى اتخذتها السلطات الصينية ضد الشركات التكنولوجية والشركات الكبرى، مع إعلان السلطات عن وجوب أن تؤدي حركة النشاط الاقتصادي إلى "الرخاء المشترك للجميع"، بما يعنيه ذلك من النظر في عدالة توزيع الدخل.
لذا بات الجميع يترقبون سياسات ضريبية جديدة على الدخل والثروة من أجل الوفاء بما أعلنه الرئيس الصيني من ضرورة إعادة توزيع الدخل ليشعر جميع المواطنين بثمار النمو الاقتصادي.
كانت نتيجة كل ما سبق إعلان كثير من الجهات عن تقديرهم بأن معدل نمو الاقتصاد سوف يشهد بعض الانخفاض عما كان مقدّرا سابقا، وهو الأمر الذي له بالطبع آثاره على طلب النفط.
أضف إلى ذلك الحملة، التي قادتها السلطات الصينية ضد شركات التكرير الخاصة، وهي معامل تكرير صغيرة تشتهر باسم "أباريق الشاي"، واستندت هذه الحملة إلى أن هذه الشركات تتهرب من الضرائب.
كانت نتيجة هذا الأمر انخفاض نشاط هذه المعامل، ما أدى إلى انخفاض إضافي في الطلب الصيني على النفط.
في الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر مستهلك للنفط في العالم وثاني أكبر مستورد له، أدى تزايد حالات الإصابة بالمتحور "دلتا"، خاصة في الولايات الجنوبية، إلى انخفاض الطلب على النفط.
أضف إلى ذلك إشارات من نظام الاحتياط الفيدرالي الأمريكي، البنك المركزي الأمريكي، إلى أنه سوف يبدأ إنهاء نظام تحفيز النشاط الاقتصادي، ما يعني احتمال تباطؤ النشاط الاقتصادي وانخفاض الطلب على النفط أيضا.
علاوة على ذلك، فمع بداية نهاية تحفيز النشاط ارتفع سعر صرف الدولار إلى أعلى مستوى له في تسعة أشهر يوم الخميس 19 أغسطس الماضي، والذي كان له أثره على أسعار النفط، لأن سعر صرف الدولار القوي يجعل من النفط أكثر تكلفة على البلدان صاحبة العملات الأخرى، ما يؤدي إلى تخفيض طلبها على النفط.
وقد تأثر مستوى الطلب على النفط أيضا مع اهتمام متزايد بوتيرة الطلب خلال الفترة المقبلة، في ضوء القيود المتشددة الجديدة في العديد من البلدان الأخرى، خاصة في اليابان، وجنوب شرق آسيا، حيث تصاعدت الإصابات بكوفيد-19.
كما أن كلا من أستراليا ونيوزيلاندا أعلنتا أيضا عن إجراءات أكثر تشددا بخصوص الفيروس.
وشهدت بعض الدول الأوروبية، على رأسها ألمانيا، العودة لتسجيل إصابات كثيرة بالمتحور "دلتا".
وكان اقتراب موسم قيادة السيارات من الانتهاء علامة على انقضاء موسم العطلات في الولايات المتحدة، وأيضا انتهاء الإجازات في العديد من الدول الأوروبية، ما أثر في توقع المزيد من ضغوط الطلب على النفط.
أخيرا، فقد شهد إنتاج النفط الصخري الأمريكي ارتفاعا مع زيادة عدد منصات الحفر إلى أعلى مستوى لها في عام، ما أدى إلى زيادة العرض وبالتالي انخفاض الأسعار.
هكذا انخفضت أسعار النفط إلى أقل مستوى منذ مايو الماضي نتيجة للعوامل السابقة، خاصة مخاطر كوفيد-19 على الطلب في الصين وعدد من الاقتصادات الرئيسية المستهلكة للنفط، وكذا سعر صرف الدولار الأقوى وارتفاع إنتاج النفط الصخري الأمريكي إلى أعلى مستوى له في عام.
عودة لارتفاع أسعار النفط
عادت أسعار النفط لتسجل ارتفاعا يوم الاثنين 23 أغسطس الجاري بنحو 5%، مع بدء القلق بشأن الطلب على النفط في تخفيف حدته، بينما على جانب العرض أدى انقطاع رئيسي لإنتاج النفط في المكسيك إلى تدعيم الأسعار.
وسجلت أسعار النفط ارتفاعا آخر بمقدار 3% يوم الثلاثاء 24 أغسطس الجاري، ليعود "خام برنت" ليسجل أكثر من 70 دولارا للبرميل.
وقد ساعد أيضا على ارتفاع الأسعار هبوط سعر صرف الدولار، حيث إن هذا الهبوط دعم الأسعار يوم الثلاثاء، بينما عادت المعنويات في السوق للارتفاع مع التحول في الطلب إلى الناحية الإيجابية، لأن سياسة تشديد الإغلاق في الصين قد أثمرت مع تسجيل ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم وأكبر مستورد له "صفر إصابات" في حالات كوفيد-19 لأول مرة منذ أسابيع عدة.
إضافة إلى هذا، فقد أعطت إدارة الصحة والغذاء الأمريكية موافقتها الكاملة يوم الاثنين 23 أغسطس الجاري على لقاح "فايزر بيونتك"، وهو أول لقاح يحصل على الموافقة "التامة" من إدارة الصحة والغذاء، التي كانت قد أعطت موافقتها "الطارئة" على اللقاح.
ويرى بعض الخبراء أن إعطاء الموافقة التامة يمكنه تشجيع بعض المواطنين المترددين على تلقي اللقاح وسط تزايد حالات الإصابة بكورونا في العديد من بلدان العالم.
وعلى جانب العرض، كان لانقطاع رئيسي في إنتاج النفط، بعد حريق أصاب منصة إنتاج مكسيكية، دوره في تقديم دعم لأسعار النفط.
وكان الحريق، الذي وقع يوم الأحد 22 أغسطس الجاري، قد أدى إلى وفاة خمسة عمال في منصة بحرية تابعة لشركة المكسيك الحكومية "بيمكس"، كما أصيب في الحادث ٦ عمال، وفُقد ٢س.
وقد أدى الحريق إلى إغلاق 125 بئرا، ما خفض الإنتاج المكسيكي من النفط بنحو 421 ألف برميل يوميا، وهو ما يبلغ قرابة ربع إنتاج البلاد من النفط.
ومن المنتظر أن تعود المنصة المكسيكية للإنتاج بعد بضعة أيام.
ارتفاع أسعار النفط يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين وحدهما يبلغ نحو 8%، وهو ما عوّض الخسائر، التي سجلتها الأسعار على مدى سبعة أيام متتالية.
ومع بقاء الأسعار عرضة للتقلب، فإن استعادة الأسعار بعض الزخم قد تشير إلى احتمال عودة سعر برميل النفط من نوع "خام برنت" قريبا ليسجل 75 دولارا، بحسب بعض المراقبين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة