اختزال أزمة حركة النهضة التونسية في شخص رئيسها راشد الغنوشي, ينطوي على رؤية تسليمية بما يحاول أتباعها ترويجه لطمس حقيقة الأزمة العميقة للحركة كجزء من أزمة عامة تفتك بتنظيم الإخوان وبنيته.
كما ينطوي هذا الاختزال على أحادية نظر إلى المنعطف الحاد الذي تنحدر فيه الحركة وتنظيمها، والإيحاء بأنه منعطف قابل للتعديل.
التماهي بين الغنوشي وبين منطلقات حركته النظرية قائم استنادا إلى الضوابط الفكرية والأيديولوجية الناظمة لطبيعة وسيرورة الحركة كجزء من تنظيم الإخوان ونظامه الداخلي، وبالتالي لا تنفصل أزمته الشخصية، وهو على رأس الحركة الإخوانية، عن إطار أزمة حركته، إنها علاقة جدلية محكمة الصياغة، متلازمة التأثير والأثر، متفاعلة مع بعضها ومنفعلة بفعل بعضها الآخر.
الاهتمام الذي بدا ملحوظا بقرارات الرئيس قيس سعيد تصدّر القائمة، ولا يزال محط المتابعة والاهتمام، لكن سرعان ما انتقل هذا الاهتمام إلى التركيز على التصدعات، التي بدأت تعصف ببنية حركة النهضة التونسية الإخوانية.
كيف دخلت حركة "النهضة" مرحلة التآكل الذاتي ولماذا؟ هل فشلها في إدارة شؤون البلاد وحده السبب؟ أم أن فشلها كان نتيجة تخبطها ونزعاتها وأيديولوجيتها المناقضة لمتطلبات الواقع السياسي والاجتماعي التونسي؟
لا يستوي النظر إلى الهزة العاصفة، التي تضرب حاليا ذراع تنظيم الإخوان المسلمين في تونس، من زاوية الإخفاق السياسي والاجتماعي فحسب، تلك مسألة ساطعة الوضوح، الأمر الأكثر أهمية يتعلق بأطرها الفكرية والأيديولوجية وبنيتها التنظيمية الداخلية المستمدة من فلسفة ونظرية تنظيم الإخوان الأم، ونهجه وأساليبه في الوصول إلى السلطة، دون النظر إلى مقتضيات وخصوصيات وبنى المجتمعات التي يسيطر عليها، ودون الأخذ بالاعتبار مكونات الهوية الوطنية لأي مجتمع تستهدفه.
الخلافات داخل الحركة لم تكن وليدة الاستحقاق الوطني، الذي ترجمه الرئيس سعيد بقراراته لحماية الدولة والمجتمع.
ما حصل كان بمنزلة الخطوة، التي كشفت عقم المشروع الإخواني في تونس من جانب، وقصمت ظهر هذا المشروع من جانب آخر.
أولى الإجابات عن اضطراب الحركة تجلى في لجوء رئيس الحركة راشد الغنوشي إلى مغامرته بإقالة أعضاء المكتب التنفيذي للحركة لغرضين: الأول، التخلص من الأصوات المناهضة له داخل تنظيمه، وإبعاد شبح الإطاحة به من الزعامتين التنظيمية والبرلمانية، وإبقاء سيطرته وقبضته على قواعده المتذمرة أصلا من وجوده ونهجه، والثاني تصدير الصورة للرأي العام بأن ما حدث من انتكاسة للحركة كان نتيجة سلوكيات وتصرفات أعضاء مكتب الحركة، والتبرؤ من تبعات الهزيمة الكاسحة له وللحركة على المستويين الرسمي والشعبي.
وإذا كان "الغنوشي" قد فشل في حشد مريديه من أعضاء الحركة أمام البرلمان غداة قرار الرئيس سعيد بتجميد عمله، فهل يستطيع المضي قدما في إعادة بث الروح في أوصال حركته المنقسمة على نفسها وينخرها الفساد وتعلو ضده أصوات الأغلبية داخلها؟
خطوته الاستباقية بإقالة أعضاء المكتب التنفيذي أشبه بقفزة في الهواء، ولا تخلو من رسائل تعكس أبعاد الفشل، ليس على مستوى الساحة التونسية فقط، بل على مستوى تنظيم الإخوان برمته، وتُظهر عمق الأزمة البنيوية، التي يمر بها بعد سلسلة الإخفاقات والهزائم التي مُني بها سياسيا وشعبيا في عدد من الساحات التي تسلل إليها في غفلة من الزمن، وأحدث فيها جروحا وشروخا عميقة.
حركة النهضة التونسية تغالب الزمن من أجل البقاء وسط تراكمات من الفشل والانقسامات المتصاعدة على أعلى مستوياتها، والأكثر تعبيرا عن ترنُّحها هو الرفض الشعبي التونسي لها نهجا وتنظيما وحكما.
قد يتوهم رئيس حركة النهضة بقدرته على لملمة قاعدة إخوانية جديدة على أنقاض مكتبها، الذي حله بقراره، لكن الوقائع تشير إلى صعوبة، إن لم يكن استحالة، تحقيق ذلك بعد أن حمّل ما يسمى "شباب حركة النهضة" ومن بينهم نواب بالبرلمان، "الغنوشي" ومكتبه مسؤولية الفشل وتدهور الأوضاع في تونس وطالبوهم بالاعتراف بأخطائهم.
تنامى الاعتراض على حركة "النهضة" وأنساقها التنظيمية والحزبية والبرلمانية بعد ممارستها السلطة رسميا سنوات عدة، ولم يتوقف الاعتراض عند القوى والتيارات الحزبية المنافسة لها، إنه اعتراض تونسي عام بمستوياته الشعبية والحزبية والرسمية في ظل انكشاف مناورات "النهضة" الرامية للهيمنة على السلطة، وسعيها لتنمية دورها الحزبي الضيق وتكريسه على حساب مصلحة الدولة التونسية وشعبها.
مع مرور الزمن تتأكد حقيقتان، الأولى أن قرارات الرئيس التونسي كانت إنقاذية بكل ما للكلمة من معنى، فقد جنّبت الدولةَ التونسية انهياراً غير مسبوق في تاريخها، وحصّنت المجتمعَ التونسي أكثر أمام محاولات تفتيته، والحقيقة الثانية تمثلت في إماطة اللثام عن الأهداف الخطيرة لذراع تنظيم الإخوان المسلمين في تونس من جانب، ورفعت غطاء القش، الذي تلوذ به تلك الحركة، فانكشفت أمام الجميع من جانب آخر.
الإيقاع المتماسك والمنضبط من قبل الدولة التونسية أربك إخوان تونس ورعاتهم.. باتت حركة النهضة وزعامتها بناءين متهالكين بعد أن انفض عنهما المؤيدون.. ولن يطول الزمن حتى تطوي تونس تلك الصفحة، وإلى الأبد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة