كثيرةٌ هي الأحداث التي تستدعي منا التفكير في القوَّة ومنطق استخدامها، للتعرُّف إلى طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فالقوَّة -بصفتها فكرة- قادرة على رسم تصوُّرات عامَّة للعقل تجاه ما يجب التعامل معه، من حيث الأداة المستخدَمة، والأسلوب الموجَّه، وحتَّى درجة ممارسة القوَّة في المواقف السياسية والاستراتيجية عمومًا، الأمر الذي يستدعي منا أن نتأمَّل مراكز القوَّة ومحدّداتها على المستوى العالمي، ذلك أنَّ كثيرًا من الدول العظمى تملك من القوَّة الشيء الكثير الذي يؤهلها لتغيير الواقع قهرًا من أجل تحقيق مصالحها الوطنية، لكنَّ هذا المنطق تجاه فهم طبيعة القوَّة لا تعكسه السياسة الواقعية اليوم.
والمتأمِّل لما يجري الآن على الساحة الدولية يعلم أنَّ القوَّة قد لا تتماشى مع التوقعات المتصوَّرة في عقول السياسيين والاستراتيجيين، أو حتَّى عامَّة أفراد المجتمع.
وكما يؤكد روبرت دال، فإنَّ القوَّة هي قدرة طرفٍ ما على التأثير في طرف آخر لعمل أمر معيَّن بالإكراه.
ويساعد هذا التعريف العام للقوَّة على تلمُّس جوانب القوَّة من حيث المؤثِّر، والمؤثَّر فيه، لكنَّ من عيوبه أنه قد يُضلِّل فهم الفرد، لكونه يعطي انطباعًا بأن القوَّة هي ترجمة لتطبيق القوَّة بين طرفين، ومُفسِّرة لطبيعة العلاقة بينهما، استنادًا إلى الامتلاك الآني لمصادر القوَّة، إذ إنه ليس ثمَّة علاقة بين القوَّة واستخداماتها على أرض الواقع.
إنَّ الأحداث السياسية الراهنة تبرهن لنا أنَّ القوَّة -بمفهومها المادي الضيّق- وحدَها غير كافية لتغيير الواقع السياسي، فلو تأمَّلنا ما حدث بين روسيا وأوكرانيا، لوجدنا أنَّ منطق القوَّة قد قاد كثيرًا من المحلِّلين إلى الاعتقاد أنَّ الأزمة الروسية-الأوكرانية ستُحسَم لمصلحة روسيا، وذلك يرجع إلى القراءة السياسية المعتمِدة على معايير القوَّة العسكرية التي تُبيّن الفرق الشاسع بين الدولتين، لكنَّ الواقع لا يتَّسق مع هذه الفكرة التي تبنَّت منطق القوَّة العسكرية بصفته فاصلًا أساسيًّا في هذا النزاع، فحالة تقدم القوات الروسية في النطاق الأوكراني غير مُرضية للرئيس بوتين، ولا تُعبّر عن مدى قوَّة روسيا.
وكذلك الأمر عند تأمُّل الأزمة السياسية بين الصين وتايوان أخيرًا، نتيجة الاستفزاز السياسي الأمريكي المتمثل في زيارة نانسي بيلوسي لتايوان، إذ نجد أنَّ كثيرين توقعوا أنها الشرارة التي ستؤدي إلى اندلاع حرب بين الصين وتايوان، وفي هذه الحالة يُتوقَّع أن تربح الصين الحرب نتيجة الفرق الكبير بين الدولتين، لكنَّ الردَّ الصيني كان أكثر حكمةً من تهوُّر الموقف في حدّ ذاته، وهو يعبِّر أيضًا عن نوع آخر من أنواع القوَّة غير التقليدية. إن التريُّث وضبط النفس هما -في حد ذاتهما- قوَّة قادرة على ترشيد صناعة القرار السياسي على نحو عقلاني.
ونستخلص من هذه الأمثلة أنَّ القوَّة وتصوراتها تختلف اختلافًا تامًّا عن تجليَّاتها على أرض الواقع، فقوَّة الدول العظمى ليست محصورة في مدى الدمار الذي قد تُحْدِثه في خصم ما، لكنَّها قد تنعكس في القدرة على تحقيق المصالح والأهداف الوطنية بأقلّ خسائر ممكنة.
ليس هذا فحسب، بل يجب التمييز بين امتلاك القوَّة وأدواتها من جهة، وإرادة استخدامها من جهة أخرى، فلو تأمَّلنا سياسات الدول النووية من خلال منطق القوَّة، لما وجدنا أيَّ دولة نووية قد استخدمت هذا السلاح الفتَّاك سوى الولايات المتحدة الأمريكية في مأساة هيروشيما وناجازاكي عام 1945.
وبناءً على ذلك نلاحظ أنَّ وعي الدول المعاصرة قد تمحور حول استخدام القوَّة النووية على نحو دفاعي يهدف إلى الردع، وليس إلى التدمير الشامل، وهذا في حدّ ذاته تجَلٍّ مهم من تجليَّات القوَّة قد يكون أكثر فاعليَّة من استخدام السلاح النووي على أرض الواقع.
نقلا عن "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة