التجربة الهندية تستحق الدراسة.... فمتى تنال اهتمام مؤسسات العرب الفكرية والبحثية؟
في الهند تعيش ثالث أكبر الأمم المسلمة، بعد إندونيسيا وباكستان، حيث يبلغ عدد المسلمين في الهند حوالي 177 مليون مسلم حسب تقديرات 2017.
ورغم ذلك لم يشارك من المسلمين الهنود أحد في القتال مع داعش في سوريا والعراق، فعلى الرغم من أن وكالة الاستخبارات الهندية أوقفت عددا محدوداً من الشباب المسلم؛ لا يتجاوز 25 شخصاً بتهمة التواصل مع نشطاء في داعش عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن أربعة فقط استطاعوا الذهاب إلى العراق للانضمام للتنظيم الإرهابي، رجع أحدهم يدعى "عارف مجيد" إلى الهند فورا، وقُتل الثاني، واختفى اثنان.
كل تلك المحاور وغيرها هي التي جعلت المسلم الهندي لا ينجذب لداعش، وجعلت المسلم الهندي يعيش في سلام مع نفسه ومجتمعه، وجعلت المسلم الهندي متمسكاً بدينه الصحيح بعيدا عن انحرافات الأحزاب والجماعات السياسية.
وبالمقارنة مع دول أخرى توجد فيها مجتمعات مسلمة ضئيلة العدد مثل ترينداد وتوباغو؛ تلك الدويلة الصغيرة التي تقع في شمال أمريكا الجنوبية؛ والتي يبلغ عدد سكانها أقل من مليون ونصف المليون، ولا يتجاوز عدد المسلمين فيها 65 ألفا، وشارك منها في داعش أكثر من 400 إرهابي، ونفس العدد جاء من مجتمعات مهاجرة صغيرة في بريطانيا وبلجيكا وفرنسا وغيرها.
من خلال تلك المقارنة تبدو حقيقة مثيرة تستحق الدراسة والاهتمام والتحليل .... لماذا ينجح داعش في استقطاب عدة مئات من مجتمع مسلم لا يتجاوز 65 ألفاً، ويفشل في استقطاب أقل من عشرة أفراد من مجتمع مسلم يصل الى ما يقارب المائتي مليون؟
سؤال ديني وفكري وسياسي وثقافي في ذات الوقت، يحتاج إلى دراسات معمقة، وتحليل رصين، ورؤية عميقة للإجابة عليه ... كان من المتوقع أن تنهض لتناوله مراكز الأبحاث في العالم العربي، وأن تستفيد من الإجابة عليه في تطوير مناهج ووسائل لمواجهة الفكر المتطرف بصفة عامة، والتطرف العنيف بصفة خاصة، ولكن للأسف لم يتم الالتفات إلى هذه الظاهرة المثيرة فكريا وسياسيا، ومرت مرور الكرام، واُعتبرت حدثاً طبيعياً، وذلك على الرغم من أن مسلمي الهند قد يواجهون تطرفاً دينياً من أتباع أديان أخرى داخل المجتمع الهندي؛ إلا أن ذلك لم يكن ذريعة لهم للخروج عن منهج الإسلام الصحيح لتبني مناهج التطرف والعنف والإرهاب.
وللإجابة على هذا السؤال يجب النظر في مجموعة من المحاور الكبرى التي تشكل وعي وثقافة المسلمين في الهند وهي:
أولا: تجربة العيش المشترك بين جميع الأديان واللغات والخلفيات الثقافية والطبقية في الهند، فالمسلم يجاور الهندوسي والمسيحي والسيخي والبوذي في نفس الشارع، ويعيش معهم حياته اليومية بكل تفاصيلها، ولذلك لم يعد المختلف عنه كائناً غريباً يجب التخلص منه، ولم يعد مفهوم الآخر موجوداً بالنسبة له، فالأنا والآخر مختلطان بصورة يصعب معها الفصل بينهما، ويستحيل معها تحويل الاختلاف إلى خلاف، لأن واقع العيش المشترك، والتعايش اليومي يثبت غير ذلك.
ثانيا: الخبرة التاريخية للمسلمين الهنود؛ الذين حكموا الهند لأكثر من سبعة قرون قبل وصول الاستعمار الإنجليزي تقول لنا أن تقاليد المسلمين في الهند كانت تقوم على التعايش والتسامح والعدل والمساواة، فآخر سلاطين جنوب الهند المسلمين "تيبو سلطان" - الذي حكم مملكة ميسور في جنوب الهند حتى وفاته في آخر معركة لمواجهة الغزو الإنجليزي لبلاده عام 1799- بنى في قصره مسجدا وكنيسة ومعبداً للهندوس؛ ليقول لمجتمعه أنه حاكم عادل لا يفرق بين دينه وأديان رعيته؛ لذلك كان جيشه الذي حارب به الاستعمار الإنجليزي يتكون من مقاتلين من كل أديان الهند.
ثالثاً: السياسة الصارمة للدولة الهندية التي تقوم على الفصل بين الدين والسياسة، وعدم التمييز بين الأديان، وإعلاء قيم الديمقراطية وحكم القانون بدرجة متميزة مقارنة بدول العالم الثالث الأخرى، تلك السياسة التي لا تجعل المسلم الهندي متعلقاً بأوهام دولة الخلافة التي رفعتها عصابة داعش، ولا تجعل المسلم الهندي يضحي بالانتماء لدولته، وينتمي لكيان وهمي من صنع خيال مريض يسمى دولة الخلافة في العراق والشام.
رابعاً: صناعة الثقافة والفنون في الهند التي نجحت في خلق هوية هندية جامعة، ونجحت كذلك في نشر قيم التسامح والتعايش، والاندماج الاجتماعي، فما تقوم به صناعة السينما في "بوليوود" يمثل ثورة حقيقية في كيفية تحويل السينما إلى وسيلة سياسية من الدرجة الأولى لترسيخ قيم السلام والتعايش والتسامح في مجتمع يتكون من مئات الأديان والمذاهب واللغات، ومن يتابع الإنتاج الفني الهندي من أفلام ومسلسلات يجد أن هناك رسائل ثقافية وسياسية عميقة وواضحة، استطاعت من خلال الاستمرارية والإلحاح أن تخلق ثقافة هندية خاصة.
كل تلك المحاور وغيرها هي التي جعلت المسلم الهندي لا ينجذب لداعش، وجعلت المسلم الهندي يعيش في سلام مع نفسه ومجتمعه، وجعلت المسلم الهندي متمسكاً بدينه الصحيح بعيدا عن انحرافات الأحزاب والجماعات السياسية.
إن التجربة الهندية تستحق الدراسة.... فمتى تنال اهتمام مؤسسات العرب الفكرية والبحثية؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة