وقائع مشهد على أرض الإمارات من شأنه أن يغير التاريخ، إنه ذلك العناق الإنساني والأخوي الحقيقي، بين البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب.
إنها إحدى أجمل العبارات التي فاه بها الإمام النفري المتوفى عام 354 هجرية، تلك التي قال فيها: "عندما تتسع الرؤية تضيق العبارة".
يمكن للمرء أن يستعين بهذه العبارة الجميلة للتعبير عن واقع حال ما جرى في الإمارات العربية المتحدة، طوال الأيام الثلاثة المنصرمة، تلك التي كتبت فيها فصلاً جديداً من فصول تاريخ الوئام والسلام لا الخصام والصدام.
لقد جاء البابا وفضيلة الإمام إلى الإمارات ليذكرا العالم بأن الأديان إنما هي طريق لحياة أفضل، وأن التعاون الخلاق قادر على تحقيق المعجزات، فقط إذا حضرت الإدارة الصالحة، وتفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
تبدأ البداية، وإحقاقاً للحق، من عند القيادة الإماراتية الرشيدة التي حولت الحلم إلى واقع، ليزور بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية أرض الخليج العربي للمرة الأولى في التاريخ قديمه وجديده.
قبل ثمانمائة عام بالضبط جاء فرنسيس الأسيزي إلى مصر زائراً، ذلك المتصوف الإيطالي الذي سيسمى الكاردينال بيرغوليو على اسمه لاحقاً عندما يضحى الرجل ذو الرداء الأبيض، لقد جاء ليقابل السلطان الكامل الأيوبي في مدينة دمياط على ساحل البحر الأبيض المتوسط وليرفض منطق القتال والحرب، ويفضل منطق صليبية المحبة وقبول الآخر إن جاز التعبير.
ويزور اليوم أيضاً البابا فرنسيس أرض الإمارات العربية المتحدة بشعار مستمد من أناشيد الأسيزي "اجعلني إلهي أداة للسلام"، أما كلمات ذلك الشعار فهذا بعض منها:
"اجعلني إلهي أداة للسلام.. فأضع الحب حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة، والإيمان حيث الشك، والرجاء حيث اليأس".
لقد بدا العالم مغايراً على أرض الإمارات، قادة دولة إسلامية يفتحون أبواب دولتهم العامرة لملاقاة الحبر الروماني الأكبر، وخليفة بطرس بخطوات مليئة بالشوق والمحبة يمضي ساعيا لترسيخ جذور المحبة والسلام والأخوة والتعايش الإنساني، في بلد يعيش فيه أكثر من 200 جنسية في تناغم خلاق عز أن يوجد مثله في المنطقة العربية بشكل عام دون تزيد أو مبالغة.
آمن قادة الإمارات بأن التسامح هو جسر بين البشر وبعضهم البعض، وأن الجسور كانت وستبقى أبداً أفضل من الجدران، فالأخيرة تمنع التواصل الإنساني، وتحجب أضواء المودة البشرية الكفيلة بحل العديد من الصراعات الإنسانية حول العالم في الحال والاستقبال، والمؤكد أن لغة الجسد كانت تتحدث وملامح وجّهي سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وسمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والتي كانت خير تعبير عما يجول في نفسيهما من صدق المشاعر والتوجهات، ما يعني أننا كنا أمام مشهد يتجاوز بمراحل فكرة البروباجندا الدعائية أو الدبلوماسية البروتوكولية.
لقد جرت وقائع مشهد على أرض الإمارات من شأنه أن يغير التاريخ، إنه ذلك العناق الإنساني والأخوي الحقيقي بين البابا فرنسيس والشيخ أحمد الطيب، عناق لا علاقة له بالتقاليد المتبعة في الاستقبالات الرسمية للرؤساء وكبار الزائرين، بل عناق أخوين تحابا في الله قولا وفعلا، وعليه يتساءل المرء أي سردية طيبة تلك التي تجمع الرجلين الكبيرين، وأي أثر إيجابي يترك هذا العناق في نفوس المؤمنين والتابعين في الأيام المقبلة.
يمكن للمرء أيضا أن يسطر مقالات مطولة عن مؤتمر الأخوة الإنسانية الذي شهدته الإمارات، غير أنه في كلمات قليلة يمكن القطع بأن فرح اللقاء الذي جمع شمل مسيحيين ومسلمين ويهود وغيرهم من كافة أرجاء العالم، قد دعا البعض لاعتبار الإمارات "رواق الأمم" في عصرنا الحاضر، وهو ما يعني صورة حديثة لذلك الرواق الذي عرفته أورشليم في بدايات حياة السيد المسيح، ذاك الذي كان يجمع بشر من كل الأمم والشعوب والقبائل.
لقد أكدت الكلمات التي قدمت في مؤتمر الأخوة الإنسانية على أن هناك بالفعل من لم ينحنِ أمام خطاب الكراهية والأصوليات البغيضة، وأن الذين يسعون للوفاق هم أكثر بكثير من دعاة الافتراق، وأن الآن قد حان الوقت للوقوف في صف موحد لمواجهة كل ما يضر بالعالم.
لقد جاء البابا وفضيلة الإمام إلى الأمارات ليذكرا العالم بأن الأديان إنما هي طريق لحياة أفضل، وأن التعاون الخلاق قادر على تحقيق المعجزات، فقط إذا حضرت الإدارة الصالحة، وتفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتقديم الآخر على النفس، وغيرها من المبادئ الخيرية. ويا لها من مبادئ ومُثُل وقيم، تاهت وضاعت في أسواق العولمة تلك التي سلّعت الإنسان، وجعلت الحياة عبارة عن تكالب على المال والمنصب والسطوة لا غير.
حين تتحدث الإمارات نخبة ومثقفين، حكومة وشعباً عن التآخي الإنساني، وعن احترام الإنسان والإنسانية، وعن تقدير الديانات المختلفة، فإنها تعطي مثالاً مضيئا لمدينة فوق جبل تضيء بأنوارها على ما حولها، فعبر جنسيات العالم المختلفة القائمة على أرضها يشعر المرء أن الوحدة تكمن في التعدد.
هناك حاجة ماسة لأن تبحث المقالات في وثيقة "الأخوة الإنسانية" التي اعتمدها فضيلة الإمام والبابا لتحليل معانيها ومبانيها في الحال، واستشراف تبعاتها في المستقبل، وهي من أهم مرتكزات حساب الحصاد في هذه الزيارة التاريخية، لا سيما أنها تعد أحدث وأهم وثيقة في التاريخ المعاصر بين الإسلام والمسيحية، وبخاصة أنها تحمل رؤية الإمام والبابا لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين أتباع الأديان، وللدور الذي ينبغي للأديان أن تقوم به في عالمنا المعاصر.
أحد المشاهد التي لا يمكن للمرء أن ينسى مفاعليها هو القداس الذي أقيم في ملعب محمد بن زايد، وعظة البابا التي تمحورت حول مفاهيم ومفاعيل الخدمة الباذلة المعطاة، تلك التي تجيد فرح العطاء لا الأخذ، وهذا ما يشعر به المقيمون على أرض الإمارات، والذين ملأوا الملعب بعشرات الآلاف من الأجناس والشعوب كافة، قداس حبري باباوي على أرض الخليج العربي، وعالم يتغير جيوسياسياً.
ما الذي يمكن قوله في الختام؟
لم يأت البابا فرنسيس لزيارة دولة، وإنما جاء لزيارة قلوب إماراتية منفتحة على محبة الآخر، بدون التوقف عند جنسه وعرقه، جاء فرنسيس إلى أرض أناس طيبين، ورحل تاركا عبئا ثقيلا عليهم أن يعملوا من أجله في الحال، لكنه عبء طيب وحمل خفيف، إنه عبء إكمال المسيرة لا سيما في عام التسامح الذي أعلنته الإمارات، تلك الدولة التي باتت برؤيتها وقناعاتها الأدبية والروحية والإنسانية، أكبر من حجمها الجغرافي، وذات نفوذ إيجابي يتجاوز وزنها الديموغرافي.
لا نغالي إن قلنا إن الإمارات أضحت رسالة أكثر من كونها دولة، وللحديث بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة