لا ينكر البابا حق الدول ذات السيادة في العيش الآمن والدفاع عن مصالح أبنائها، لكنه في الوقت عينه يرى أنه لا مكان للانغلاق بأوروبا.
هل هي مصادفة قدرية أم موضوعية أن تصدر هذه التصريحات عن البابا فرنسيس الساكن وراء جدران الفاتيكان الأسطورية، تلك التي يعزز فيها رؤيته للأخوة بين البشر، والتي سبق وضمنها مع فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وثيقة "الأخوة الإنسانية" التي صدرت في فبراير/شباط الماضي في أبوظبي؟
ينظر بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى الآخر من منظور الأخوة الإنسانية، أي الشراكة الحياتية، وبمعنى أننا أبناء آدم وحواء، ولا يصح التمييز بيننا على أسس من العرق أو اللون أو الدين، وكثير من الرؤى والمفاهيم الخلاقة كما جاءت في الوثيقة الشهيرة هذا العام.
لا يهم الجواب بمقدار ما يهمنا ونحن في زمن الأضحى المبارك التوقف أمام معنى تصريحات الرجل ذو الثوب الأبيض، والمحبوب بفرادة خاصة من المسلمين حول العالم، وبخاصة لما لمسوه فيه من رغبة حقيقية في بناء جسور من المودات، يسير عليها البشر في وئام يليق بكرامة الإنسان، وعنده أمس واليوم وغدا أن الأديان إنما شرعت من أجل حياة أفضل لبني البشر.
ويدرك المراقب والملم ببروتوكولات الفاتيكان ونهج حياة الحبر الروماني الأعظم، إنه من النادر أن يقدم البابا فرنسيس مقابلات صحفية، وقد كان الأمر قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني شبه نادر، وأن تغير لاحقا لتدارك متغيرات العصور والأزمنة.
نهار الجمعة الفائت كانت صحيفة "لاستامبا" الإيطالية تنشر حوارا للبابا فرنسيس جاء حاملاً الكثير على ما أسماه الاتجاهات السيادية المتطرفة التي تنم عن تصرفات انغلاقية يمكن أن تقود إلى حروب كبرى.
فرنسيس البابا الطيب الساكن حتى الساعة في "نزل سانتا مارتا"، والذي لم يقضِ ليلة واحدة في شقته بالقصر الرسولي، حيث المقر التقليدي لباباوات روما، منزعج لأقصى درجات الانزعاج بسبب خطابات الكراهية التي تملأ العالم، وباتت تذكره بأنها تشبه الأحاديث القاتلة التي صدرها الزعيم النازي "أدولف هتلر" إلى العالم في أربعينيات القرن الماضي، تلك التي قادت إلى حرب عالمية ثانية مهلكة أسفرت عن نحو سبعين قتيلا.
آفة الإنسانية اليوم هي القوميات القاتلة والأصوليات الضارة، وها هو الحبر الروماني يعاين أوروبا وهي تكاد تغرق في لجج التطرف والغلو اليميني مرة جديدة، ومن دون أي أطواق نجاة تنقذ الجميع من المآلات التي تنتظر خلف الباب لتتسيد على الجميع، ولتفرز للعالم متطرفين جدد، وكأن العالم موعود بفكي كماشة رهيبة: متطرفون وأصوليون في الشرق، ويمينيون وقوميون وشعبويون في الغرب.
لا ينكر البابا بوجود حق الدول ذات السيادة المستقلة في العيش الآمن والدفاع عن مصالح أبنائها، لكنه في الوقت عينه يرى أنه لا مكان للانغلاق أو للانغلاقيين في أوروبا المعاصرة، ولهذا يؤكد أن المبالغة في رفع الجدران أمر قاتل لروح الجسور، ولا يؤدي إلا إلى مزيد من الحروب والعداوات.
من كرسي بطرس كبير الحواريين ينظر فرنسيس إلى حال العالم ليجد هولا كبيرا يضرب أبناء إبراهيم، من جراء روح العنصرية، وفكر الفوقية، وما يترجم عنه من آليات استعلائية، يقع ضحيتها الآمنون والأبرياء.
في نظرته يجد إرهابا يمينيا أعمى يستهدف الآمنين في مسجدين بمدينة كريست تشيرش النيوزيلندية، ليوقع العشرات، ومن بعده يفخخ إرهابيون آخرون أنفسهم في المصلين المسيحيين داخل كنائس سيرلانكا صباح الفصح، ومنذ أيام قلائل يطلق شاب أمريكي في مقتبل العمر نيرانه على تجمعات للأمريكيين لاتيني الأصل، انطلاقا من إيمانه بفكر "الاستبدال الكبير" للكاتب اليميني الفرنسي المتطرف "رينو كامو"، ليوقع عشرات منهم، وقبله كانت "كنس" اليهود في ولايات أمريكية مختلفة عرضة لرصاص الكراهية عينه.
يتألم الحبر الأعظم وهو يرى أبناء الأديان يدفعون ثمنا باهظا لتعالي موجات الشعبوية، والتي يصفها في حواره مع الجريدة الإيطالية الشهيرة بأنها من نفس خطاب الكراهية، ذاك الذي روج له هتلر تارة، وعانت منه إيطاليا تحت حكم الفاشية تارة أخرى.
يرى البابا فرنسيس أن الشعبويين يقودون أوروبا في طريق التيارات السادية، أي أولئك الذين يتلذذون بإيقاع الأضرار بالآخرين، وكأن الأمر هدف لهم، وأن الذات العليا خاصتهم لا تدرك إلا من خلال الانتقاص من الآخر، والاختصام من حضوره، وهو انتقاص يبدأ أدبيا وأخلاقيا إلى أن يصل عند لحظة بعينها إلى التخلص منه نفسا وجسما، وما الحروب والدمار التي نراها إلا ترجمات لواقع حال بات مختلا.
يحاجج التيار الشعبوي الأوروبي المعاصر، وهو بلا شك واقع تحت تأثير نظيره الأمريكي، بأن أوروبا تذوب وتنزوي، وألا خلاص لها إلا بالرجوع إلى فكرة النقاء العرقي، وهو حديث ممجوج ربما كان صالحا للترويج الشعبوي قبل 5 قرون، لكنه في زمن العولمة لم يعد ممكنا بالمرة.
في المقابل يرى البابا فرنسيس أن الوحدة الأوروبية لا تعني التفكير في الآخر على هذا النحو غير الخلاق، وغير الإنساني، وأن مشاكل الانقسامات الداخلية باتت مهربا ومفرا للبعض، أولئك الذين يسعون إلى تصديرها إلى الخارج عوضا عن التوقف ومراجعة الذات.
ينظر بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى الآخر من منظور الأخوة الإنسانية، أي الشراكة الحياتية، وبمعنى أننا أبناء آدم وحواء، ولا يصح التمييز بيننا على أسس من العرق أو اللون أو الدين، والكثير من الرؤى والمفاهيم الخلاقة كما جاءت في الوثيقة الشهيرة هذا العام.
هذه الوثيقة لم نلتفت إليها عربيا بما يكفي، في حين تقوم جماعات إيمانية بل وعلمانية متعددة داخل أوروبا مؤخرا بعمل ندوات نقاش وتفكير للتأمل فيها ومحاول استلهام أفكارها في برامج حياتية، تنتشل الجميع من وهدة الكراهية، فحيث الأخوة والمحبات لا مجال للقوميات والشعبويات.
لم يتناول البابا فرنسيس أزمة اليمين الأوروبي المتطرف من باب التنظير الذي لا طائل من ورائه، وإنما أحاديثه هي عمل وترجمه لشعاراته، وآية ذلك مواقفه من الهجرة والمهاجرين، ففيما كان سادة أوروبا وسدنتها من السياسيين ولا يزالون يرون في المهاجرين المساكين الذين ألقت بهم الأقدار على سواحلهم عبئا وكارثة لا بد من الخلاص منهم، كان البابا يفتح قلبه وعقله، بل ومؤسسته الرومانية الكاثوليكية في عموم أوروبا من أجل إيواء هؤلاء وأولئك، معتبرا أنه يستهدي بقول السيد المسيح: "جعت فأطعمتموني، غريبا فآويتموني، عريانا فكسوتموني، مريضا فعدتموني".
فارق شاسع بين فكر البابا فرنسيس الإنساني والإيماني، وبين توجهات وزير داخلية إيطاليا "ماثيو سالفيني" الذي يقف معارضا وبقوة لأي توجهات إنسانية من قبل البابا تجاه المهاجرين، ولم يعد الخطر قائما عند إيطاليا فحسب بل يتنامى في دول أوروبية أخرى، حيث فيكتور أوربان في المجر، وجيرت فيلدرز في هولندا، وماريان لوبان في فرنسا، ولهذا فإن صوت البابا فرنسيس يعد صوتا صارخا في شوارع أوروبا المتصحرة إيمانيا وإنسانيا.
الأخوة الإنسانية هي الحل، والمودات هي التي تبني الأمم، أما الكراهيات فلا تقود إلا إلى دائرة الهلاك في الحال والاستقبال ولتنظر أوروبا ماذا ترى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة