التنمية والاستقرار، العاملان اللذان بشرت بهما دولة الإمارات منذ سبتمبر/أيلول عام 2021 في مبادئها العشرة، وهما الفكران الجديدان اللذان يقفان على سلم أولويات حكومات منطقة الشرق الأوسط التي تبحث عن النجاح الاقتصادي خلال هذه الفترة من زمن العالم.
وأكاد أجزم بأن أي حكومة أو نظام حكم مهما كان توجهه واعتقاده السياسي أو أيديولوجيته، يبتعد عن التنمية كغاية لسياسة بلاده الخارجية، سيواجه برفض وغضب من الشعب أولاً، قبل الرفض الإقليمي والدولي، وإيران هي أفضل مثال لذلك الحال، بالاستياء سواء لدى النخبة أو الشعب من الابتعاد عن التنمية وتحسين أوضاع المواطنين، بسبب إهدار موارد ضخمة في مغامرات خارجية ثبت مرات ومرات أنها خاسرة.
فلم تخدم الشعب ولم تسهم في تنميته، ولا ساعدت النظام هناك على الاستقرار وتحقيق ما كان يبتغيه من مكاسب ونفوذ وأطماع إقليمية. وهناك أمثلة أخرى مشابهة في دول عربية يعاني بعضها من انهيار وتفكك أو فشل للدولة أو في أحسن الأحوال أزمات اقتصادية متتالية، والسبب المباشر هو تغييب التنمية وخدمة الإنسان من الأهداف والسياسات المتبعة.
لقد ولّى عصر الإسلاموية والقومية وغيرها من الأفكار والشعارات السياسية الرنانة التي عانت منها المنطقة منذ فترة الخمسينيات، بعد أن أثبتت فشلها التنموي وعقمها الوطني في خدمة الإنسان بشكل عام، وبدأت منطقتنا تعيش مرحلة تاريخية مختلفة. قد تكون ملامحها الجديدة اليوم أكثر وضوحاً عما قبل، بعد أن بدأت مؤشراتها مع إعلان دولة الإمارات مبادئها للخمسين عاماً المقبلة، بأن الاقتصاد والتنمية هما الأساس لخدمة الإنسان وتحقيق غاياته.
وقد بات من الواضح لأي متابع لحركة التاريخ، أن التنافس حالياً بين الدول في المنطقة يتركز في استقطاب رؤوس الأموال، ليس فقط على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي وإنما منطقة الشرق الأوسط كلها. بل إن عامل الاقتصاد وجذب رؤوس الأموال يقف وراء بعض المصالحات بين الدول في المنطقة؛ فتركيا على سبيل المثال غيرت نهجها في دعم تنظيم الإخوان، وقررت "تصفير" مشاكلها مع دول عربية وخليجية لتنشيط السياحة وجذب الاستثمارات ورفع معدلات التبادل التجاري.
والميزة التي انفردت بها دول الخليج مقارنة بغيرها من دول المنطقة، هي الحفاظ على الاستقرار بمختلف أشكاله ومجالاته، حيث القوانين والتشريعات الاقتصادية مساعدة ومشجعة على الاستثمار، كما أن البيئة المجتمعية حاضنة لكل الجنسيات والأعراق بما يكفل استيعاب أصحاب المهارات والمواهب والطموحات في شتى المجالات.
كما كان ارتفاع معدلات التنمية واحتلال الإمارات مكانة رفيعة في صدارة المؤشرات والتقارير الدولية لمختلف القطاعات والأنشطة، كلها كانت عوامل كانت معززة لحصتها من الاستقطاب والتنافس الاستثماري الإقليمي. وبالتالي لا ينبغي أن تتملكنا حالة من الاستغراب للمكانة العالمية التي حققتها العاصمة الإماراتية (أبوظبي) بأنها أغنى مدينة في العالم، فهذا مبني على أسس موضوعية وعقلانية تخاطب الواقع وليس المزايدة الشعاراتية الفارغة.
قد تكون عودة الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة وطبيعته العملية وخطابه السياسي المليء بالمفردات الاقتصادية ومنطقه القائم على الصفقات التجارية، عامل مساعد على انتقال المنطقة من مرحلة الأيديولوجيات والشعارات إلى الحديث عن رغبة حكومات المنطقة بالتركيز على الاستقرار والتنمية وبناء مناطق تنموية مستقبلية. ولكن علينا ألا نغفل في الوقت نفسه شيئين مهمين في حركة تاريخ المنطقة هما:
الشيء الأول: أن الدول الخليجية منذ سبعينيات القرن الماضي وهي تركز على التنمية والاستقرار باعتبارها عاملا مهما في خلق بيئة تنموية وصناعة مستقبل يبهر العالم، من خلال توظيف المال في خدمة الإنسان فيها. وكانت تعمل بهذا النهج في صمت ودون ضجيج إعلامي، بينما الجوار الجغرافي للدول الخليجية يحاول التشويش عليها.
الشيء الثاني: أن إيران هي آخر الحصون الأيديولوجية التي سقطت في المنطقة، بعد القضاء على أذرعها العسكرية وخصوصاً حزب الله اللبناني وحركة "حماس"، وسقوط حليفها الاستراتيجي في المنطقة نظام بشار الأسد. وقد أسهمت هذه الضربات بشكل كبير في تطوير توجهات بعض الأطراف في المنطقة لتصبح أكثر واقعية واعتدالاً ولتتراجع الشعارات الرنانة والمواقف الثورية البعيدة عن الواقع والحقيقة.
قد يكون من الصعب الجزم بانتهاء كل الأيديولوجيات التخريبية سواء الإسلاموية أو القومية باعتبارها أفكاراً، أي قابلة للعودة مرة ثانية والازدهار. لكن على الأقل خفت صوتها وتراجع صداها بشكل كبير.
أما ما بقي حتى الآن من تلك الأفكار، فإما لأن الحرس القديم لها لا يزال موجوداً ويعيش على حنين تلك الشعارات الفاشلة والخاوية. وإما هي محاولة أخيرة لحفظ ماء الوجه أمام الأتباع والمريدين من خلال الاستمرار في "بيع الوهم" لمفاهيم ليس لها معيار ولا وزن حقيقي مثل: وهم الانتصار رغم كل الدمار المادي والمعنوي. وهؤلاء مع كل محاولاتهم برفع الصوت، لا صدى لهم في المجتمع إلا في نطاقهم الضيق المحدود، حيث فقدوا المصداقية أمام المجتمع والناس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة