عندما وصلت إلى مطار القاهرة منذ أيام قليلة، عائدا من الخارج، كنت أعرف أن ابنتى وزوجها ينتظرانى بسيارتهما، ومن ثم لم أكن فى حاجة إلى خدمات سائقى التاكسيات، المصطفين بين باب المطار والرصيف الخارجي، لم يكن وجود هؤلاء السائقين بكثرة على باب المطار شيئا جديدا
عندما وصلت إلى مطار القاهرة منذ أيام قليلة، عائدا من الخارج، كنت أعرف أن ابنتى وزوجها ينتظرانى بسيارتهما، ومن ثم لم أكن فى حاجة إلى خدمات سائقى التاكسيات، المصطفين بين باب المطار والرصيف الخارجي، لم يكن وجود هؤلاء السائقين بكثرة على باب المطار شيئا جديدا علي، ولكن استرعى انتباهى هذه المرة التعبيرات التى علت وجوههم، الواحد بعد الآخر، بدا عليهم وكأن الحصول على زبون مسألة مصيرية، وإلا فما سر هذا الشعور المرتسم على وجوههم بالإحباط العظيم وخيبة الأمل؟
الفقر والفقراء فى مصر ظاهرة قديمة جدا بالطبع، ولكن يبدو أنه لا شيء يبقى على حاله، حتى الفقر، مازلت أتذكر أشياء كثيرة عن علاقة الفقراء بالأغنياء فى مصر فى الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، أى قبيل ثورة 1952، ولم يكن من بينها هذا الشعور القوى بالإحباط فى موقف مماثل لما رأيته فى المطار منذ أيام، ثم توالت على ذهنى مختلف الأحداث والتطورات التى مرت بها مصر خلال هذه الفترة التى تصل إلى سبعين عاما، فلم يبد لى غريبا على الإطلاق أن يكون شعور الفقراء بفقرهم قد تغير إلى هذه الدرجة. كم كان من السهل تمييز الفقراء عن الأغنياء فى مصر منذ سبعين عاما، بالمقارنة بالحالة الآن، كان هناك أولا التميز الجغرافي، بين الريف والمدينة، وفيما يرتديه الشخص من ملابس، ولكن كان هناك أيضا التميز الوظيفي، وفى مستوى التعليم، فى كل هذه الأمور كانت هناك استثناءات واضحة، فلم يكن كل سكان الريف فقراء، ولا كل من لبس الجلباب، ولكن القاعدة العامة كانت صحيحة مع ذلك. كنا كثيرا ما نستخدم لفظ «الفلاحين» للإشارة، ليس فقط لسكان الريف، بل للريف نفسه، وكانوا هم من يخطرون بالذهن فورا بمجرد الإشارة إلى الفقر، وكان هذا التفريق فى الذهن له بلا شك ما يبرره، كان وصول سيارة إلى إحدى الطرق المتربة فى إحدى القرى يثير دهشة وحماس الصغار والكبار من الفلاحين، فيجرى الصغار وراء السيارة ويقف الكبار لاستطلاع الخبر، أما ملاك الأراضى الكبار فكانوا يقيمون عادة فى المدينة ضمن من كانوا يسمون فى كتب التاريخ بـ«الملاك الغائبين»، الذين لا يذهبون عادة إلى الريف إلا لاستنشاق الهواء، فإذا ظهروا هم وأولادهم فى القرية ومعهم آلة فوتوغرافية، اشتد الحماس بين أهل القرية ويصر الكبار والصغار على التقاط صورة لهم لتخليد ذكراهم.
لست بحاجة لتذكير القاريء بما حدث للقرية المصرية منذ ذلك الحين، فقد جرى تعبيد الطرق، وحلت المبانى الأسمنتية محل البيوت المبنية بالطين، وودخلت الكهرباء والتليفزيون والغسالة الكهربائية، وأصبح من الضرورى بذل الجهد للتمييز بين الغنى والفقير داخل القرية، كما فى داخل المدينة.
حدث شيء مماثل للملابس، كان السير حافيا فى الطريق العام دليلا مؤكدا على الفقر، كما لا يزال الآن، ولكن هذا لا ينطبق على سائر الملابس، كان ارتداء الجلباب يقترن فى الأذهان بالفقر، وارتداء الزى الأوروبى (البدلة أو البنطلون والقميص) يقترن بالتمدين والصعود إلى طبقة أعلي، ولكن تغير هذا الأمر أيضا ولم يعد لا هذا ولا ذاك أساسا صالحا للتمييز بين الطبقات، فما أكثر ارتداء الأغنياء الآن للجلباب، خاصة بعد ظاهرة الهجرة إلى الخليج، وما أكثر الفقراء المرتدين للبنطلون والقميص فى المدينة والريف على السواء. فى مجتمع أغلبه من الفلاحين (كما كان الحال فى مصر حتى الخمسينيات من القرن الماضي)، ويعود فيه الفضل أساسا، فى الانتماء للطبقة الوسطى الصغيرة، لا لنمو الصناعة أو التجارة بل للتعليم، لابد أن يكون لصاحب الوظيفة الحكومية مكانة متميزة تخرجه عن نطاق الفقراء، إنه أولا يعيش غالبا فى المدينة وليس فى الريف، وهو يرتدى الزى الأوروبي، وحاصل على مستوى من التعليم لا يحصل عليه معظم السكان، ويسمح له بوظيفة مستقرة ومضمونة، ثم بمعاش ملائم، كان هذا فى الأيام التى انتشر فيها المثل الشعبى الشهير «إن فاتك الميرى تمرغ فى ترابه»، ولكننا نعرف الآن أننا نعيش فى عصر مختلف تماما، لم يعد «للميري» أى جاذبية واضحة، بل أصبح كثير من الموظفين الحكوميين من أشد الناس معاناة للفقر، لا يزالون يرتدون الزى الأوروبي، ولكن هكذا أصبح تقريبا حال الجميع، وإن كانت ملابسهم كثيرا ما تدل على فقر أشد من فقر العمال الصناعيين أو المشتغلين بالتجارة.
كانت الخدمة المنزلية منذ سبعين عاما علامة مؤكدة على الفقر، كما لا تزال الآن، ولكن كم تغير الحال هنا أيضا، كان المشتغلون بالخدمة المنزلية يتكونون أساسا من أشخاص قادمين من الريف إلى المدينة، هربا من قسوة الحياة فى الريف، ليشتغلوا بحراسة منازل الطبقة العليا أو الوسطي، أو بأعمال الطهى وخدمة الضيوف، أو فى مساعدة ربات البيوت فى مختلف المهام المنزلية، انتشرت فى ذلك الوقت ظاهرة البواب أو السفرجى أو السائق النوبى (كما نرى فى أفلام الثلاثينيات والأربعينيات)، المعتز بنفسه، والذى لايزال يجد صعوبة فى الحديث بلهجة سكان العاصمة أو الإسكندرية، وظاهرة الخادمة الآتية من قرية من قرى الدلتا المكتظة بالسكان، والتى لا ترفض عائلتها أن تعمل ابنتهم فى المدينة وأن تقيم إقامة دائمة فى منزل مخدوميها، ولا ترى أسرتها إلا لماما، حينما يأتى الأب لاستلام أجرتها، حتى تعود عودة نهائية للزواج فى قريتها.
لقد انتهى كل هذا أو كاد ينتهي، فالإقامة الدائمة فى بيت المخدومين لم تعد ضرورية ولا مستساغة، أصبح الخدم يقيمون مع أسرهم فى المدن، وارتفعت أجورهم، ومن ثم أصبح العمل محدودا بساعات معينة، وضعفت بالتالى العلاقات الحميمة التى كانت كثيرا ما تنشأ بين الخدم ومخدوميهم، أصبحت أجور الخدم تتحدد، لا بمستوى الكفاف، كما كانت فى الماضي، عندما كانت الأسر الريفية تقنع بأن يجد ابنهم أو ابنتهم ما يضمن لهما البقاء على قيد الحياة، بل بقوى العرض والطلب، التى سمحت لكثير من الخدم بالحصول على دخل أعلى بكثير من راتب الموظف الحكومي، حتى لو كان حاصلا على شهادة جامعية. هكذا اختلط الحابل بالنابل، فاختلط الريف بالحضر، إذ كثرت الأمثلة على تمدين الريف وترييف المدينة، وشاع ارتداء الزى الأوروبى بين الأغنياء والفقراء على السواء، ولم تعد الوظيفة الأميرية تحمى من الفقر، ولا تعليم، إذ كثر المتعلمون بين الفقراء، وكثر الجهلاء وأنصاف المتعلمين بين الأغنياء، فكيف نفسر هذا التطور الغريب وغير المتوقع؟ ما الذى حدث ليجعل الفقر الحديث مختلفا لهذه الدرجة عن الفقر القديم؟ وهل لهذا الذى حدث علاقة بما رأيته من علامات الانكسار على وجوه سائقى التاكسى الواقفين أمام باب المطار، كلما رفض أحد العائدين من السفر عرضهم بالركوب معهم؟
نقلًا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة