موريتانيا.. تجربة انتخابية فريدة
الرئيس الموريتاني الجديد محمد ولد الغزواني خاض حملته الانتخابية معتمداً على الثقل السياسي للحزب الحاكم، ودوره في مكافحة الإرهاب
قدمت موريتانيا تجربة فريدة ومثلاً يحتذى في التداول السلمي للسلطة والانتصار للديمقراطية، حيث تقلد وزير الدفاع السابق محمد ولد الغزواني رئاسة البلاد، التي عرفت تاريخياً ببلد الانقلابات العسكرية، إثر فوزه بسباق الانتخابات الرئاسية.
وفاز الغزواني ليحل محل الرئيس محمد ولد عبدالعزيز الذي رفض محاكاة تجارب أخرى، تم خلالها تعديل الدستور للسماح للرؤساء بالترشح لولايات رئاسية إضافية، وتجاوز المدد المنصوص عليها بالدستور.
وعلى الرغم من أن هذا الحدث يمثل أول انتقال سلمي للسلطة في موريتانيا منذ نحو 60 عاماً، هو عمر البلاد منذ استقلالها عام 1960، إلا أن المعارضة شككت في نتائج الانتخابات، مؤكدة أنها لم تكن سوى تزييف لإرادة الناخبين، مما أدى لانقسام الشارع السياسي بشأن شرعية الانتخابات الرئاسية، التي عقدت في 22 يونيو/حزيران 2019.
أجواء تنافسية
جرت الانتخابات في أجواء تنافسية صحية للغاية، توافرت بفضل إلغاء مقترحات زيادة عدد الولايات الرئاسية بالدستور، وتعديل قانون الأحزاب عام 2018، بما يجيز حل الأحزاب التي لم تشارك في اقتراعين بلديين متتالين، أو التي عجز مرشحوها عن الحصول على 1% على الأقل من أصوات الناخبين في اقتراعين متتاليين، مما أدى لإنهاء وجود 78 من الأحزاب الهشة، غير القادرة على المنافسة أو التعبير عن مصالح الجماهير، والإبقاء على 28 من الأحزاب الفاعلة، التي اتجهت لتكوين ائتلافات حزبية، استعداداً لخوض الانتخابات الرئاسية.
أعلن المجلس الدستوري المشرف على الانتخابات استيفاء 6 مرشحين للشروط اللازمة للترشح، وهم محمد ولد الغزواني مرشح الحزب الحاكم "الاتحاد من أجل الجمهورية"، وسيدي محمد ولد بوبكر رئيس الوزراء الأسبق، الذي يخوض الانتخابات مستقلاً، مع التمتع بدعم حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" الممثل لتنظيم الإخوان بموريتانيا.
وهناك أيضاً بيرام ولد الداه مرشح الحركة الانعتاقية الحقوقية "إيرا"، الناشطة في مواجهة الرق، والذي حل في المرتبة الثانية بالانتخابات الرئاسية عام 2014.
وكذا محمد ولد مولود مرشح حزب اتحاد قوى التقدم اليساري، والمرتجى ولد الوافي الذي يعد مرشح الشباب، باعتباره أصغر المرشحين سناً، وأخيراً كان حميدو بابا مرشح ائتلاف التعايش المشترك، الذي يضم أحزاباً ذات خلفية زنجية.
وخاض محمد ولد الغزواني الحملة الانتخابية معتمداً على الثقل السياسي للحزب الحاكم، ودوره في مكافحة الإرهاب بالبلاد. وركز برنامجه الانتخابي على إصلاح التعليم، والنهوض بالاقتصاد عبر توفير فرص العمل، وتنفيذ مشروع حفر قناة نهر السنغال، حتى يصل إلى وسط البلاد في مدينة ألاك.
في المقابل، ركزت البرامج الانتخابية لمرشحي المعارضة على تحسين الوضع الاقتصادي للبلاد، وضمان احترام حقوق الإنسان، وإيلاء أهمية قصوى للقضاء على الرق، الذي يمثل نظاماً اجتماعياً متوارثاً، خاصة بالأقاليم والمناطق الحدودية، رغم حظره دستورياً منذ عام 1961، ورغم صدور الكثير من القوانين التي تجرم ممارسته، وأبرزها ميثاق الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للرقيق المحررين "الحراطين"، والذي صدر في أبريل/نيسان 2014، ليجعل الرق جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
كما اتفق مرشحو المعارضة على التكتل فيما بينهم لمواجهة مرشح الحزب الحاكم، إذا اضطروا لخوض جولة انتخابية ثانية في 6 يوليو/تموز المقبل.
لكن ظلت فرص فوز ولد الغزواني هي الأعلى، باعتباره مرشح الحزب الذي يهيمن على أغلبية مقاعد الجمعية الوطنية والمجالس البلدية منذ تأسيسه عام 2010، والذي يتمتع بخطوط اتصال وتنسيق مع أكثر من 20 حزباً موالياً، بالإضافة لتحالفه مع بعض أحزاب المعارضة، وأهمها حزب العهد الوطني للديمقراطية والوحدة "عادل"، وبعض العناصر المنشقة عن حزب "تواصل"، وتكتل القوى الديمقراطية المعارض. فضلاً عن السمات الشخصية لولد الغزواني، فهو سليل عائلة "صوفية"، تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة.
كما أنه قائد عسكري مؤهل علمياً، وسبق له تولي رئاسة أركان القوات المسلحة لـ10 أعوام.
الغزواني.. الرئيس التاسع لموريتانيا
وبالفعل تمكن ولد الغزواني من حسم الانتخابات من جولتها الأولى، وإن كان بنسبة قليلة نسبيا "52%"، لكنها كانت كافية لتنصيبه رئيساً للبلاد، ليصبح هو الرئيس التاسع لموريتانيا منذ استقلالها، وحظي ولد الغزواني بتأييد واضح بمحافظات الوسط الموريتاني، خاصة "لعصابة"، حيث يقع مسقط رأسه بالإضافة للبراكنة وتكانت.
كما كانت محافظة الحوض الشرقي والمحافظات الجنوبية الشرقية مثل ككيدي ماغا وكوركول خزانا انتخابيا كبيرا للغزواني، لكونها من المحافظات التي تدعم غالباً مرشح حزب السلطة، فيما ساندت محافظة الحوض الغربي المرشح محمد ولد بوبكر، المدعوم من حزب تواصل، بينما كان الشمال الموريتاني هو الأقل تأثيراً في نتائج الانتخابات بسبب انخفاض عدد سكانه.
خضعت الانتخابات للرقابة في كافة مراحلها، سواء من الجهات الرقابية المحلية أو الأجنبية. وأكدت بعثة المراقبة الأوروبية ومعهد كارتر أن الانتخابات جرت في ظروف مرضية.
وأن ما شابها من خروقات لا يؤثر في نتائجها النهائية، كما أشاد الجميع بارتفاع نسب المشاركة في الانتخابات، خاصة بالمناطق الريفية والأقاليم، حيث بلغت 62.6% من إجمالي الناخبين، البالغ عددهم 1,5 مليون ناخب.
لكن المعارضة رفضت نتائج الانتخابات، بدعوى التضييق على مؤيدي المرشحين المعارضين، ومنع ممثليهم من دخول مراكز الاقتراع، وعدم قانونية تشكيل المجلس المشرف على الانتخابات، وإعلان ولد غزوان فوزه بالانتخابات قبل صدور النتائج رسمياً، لذا سعى مرشحو المعارضة لتعبئة الرأي العام لأجل الخروج في مظاهرات حاشدة ضد نتائج الانتخابات.
وشهدت العاصمة نواكشوط بالفعل تجمعات من المحتجين أمام مقر اللجنة الانتخابية، كما قطع المحتجون الطرق كتعبير عن رفضهم نتائج الانتخابات.
في المقابل، بادرت المحكمة الدستورية العليا بالمصادقة على نتيجة الانتخابات، ودعت السلطات المعارضة إلى اتباع الطرق القانونية في الاحتجاج.
ورفضت تنظيم أي مسيرات للمعارضة، كما نشرت وزارة الداخلية عناصرها الأمنية بالمناطق الحيوية، وتم قطع خدمة الإنترنت عن البلاد كإجراء احترازي، خوفاً من خروج المظاهرات عن نطاق التعبير السلمي عن الرأي، إلى وضع يهدد فيه أمن واستقرار البلاد.
وهنا دعا الرئيس المنتهية ولايته محمد ولد عبدالعزيز الشعب إلى وضع استقرار البلاد فوق أي اعتبار آخر، محذراً من تفشي خطاب التفرقة والعنصرية، بما يؤدي لاندلاع الفوضى بموريتانيا، خاصة أنها تقع في إقليم الساحل الأفريقي، الذي يعاني انتشار الحركات المتطرفة، التي تتبع تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين.
وفي تقديري فإن الأمور سوف تتجه نحو الاستقرار في موريتانيا، استناداً إلى 4 عوامل على الأقل، هي: انخفاض نسبة الأصوات التي حصدها أقرب منافسي الرئيس، حيث حصل بيرام ولد الداه على 18.5% فقط من الأصوات، وأن الاعتراض على نتائج الانتخابات يعد تقليداً متأصلاً بموريتانيا، حتى اعتاد مرشحو المعارضة على التشكيك في نزاهة الانتخابات قبل إجرائها فعلياً، مع مقاطعة العملية الانتخابية برمتها.
كما أن انشقاق المعارضة لا يؤهلها لتكوين جبهة موحدة قادرة على تحدي النظام السياسي.
فضلاً عن أن كافة تقارير الجهات الرقابية جاءت لتشيد بمستوى نزاهة وشفافية الانتخابات، حتى أنه كان من الصعب التكهن باسم المرشح الفائز بالرئاسة.
وختاماً، فهناك العديد من الملفات التي تنتظر الرئيس ولد الغزواني على أعتاب القصر الرئاسي، أهمها مكافحة الفقر، الذي تعتبر نسبته بموريتانيا هي الأعلى بين دول الشمال الأفريقي، حيث يعيش 71% من الشعب على أقل من دولارين يومياً.
وكذا إصلاح قطاعات التعليم والصحة، وزيادة كفاءة استخراج وإدارة الثروة المعدنية بالبلاد، خاصة الحديد والذهب والنفط، والوصول إلى حل جذري لمشكلة "الحراطين"، الذين يشكلون 20% من الشعب الموريتاني، حيث تتمثل مطالبهم في العدل والمساواة مع باقي فئات المجتمع.
وهذا مطلب إنساني ينبغي أن يحظى بالأولوية على جدول أعمال الرئيس، إذ لا يعقل أن يظل نظام الرق قائماً في دولة إسلامية، وأن ينقسم الشعب الموريتاني بين أحرار وعبيد.
فهل ينجح الرئيس الجديد في الوفاء بوعوده الانتخابية، ومن ثم تأسيس قواعد شعبية راسخة لشرعيته السياسية، أم أنه سيتقيد بسداد الفواتير الانتخابية لأولئك الذين ساعدوه في الوصول إلى سدة الحكم، ليظل محسوباً على الرئيس السابق.
هذا هو السؤال الذي لن يجيب عليه سوى الرئيس ولد الغزواني بنفسه، من خلال ممارساته السياسية في قابل الأيام.
** د. أيمن شبانة: نائب مدير مركز حوض النيل - جامعة القاهرة
aXA6IDMuMTM1LjE5NC4xMzgg جزيرة ام اند امز