روح جديدة تتخلق في المنطقة العربية، وسط كل هذه النيران التي تشتعل في كثير من أنحائها، ووسط المؤامرات التي تحاك ضدها.
ردود فعل واسعة، أثارتها صورة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، داخل الكاتدرائية المرقسية في القاهرة، ولقائه بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية تواضروس الثاني، في زيارة تاريخية، هي الأولى من نوعها، كما وصفتها وسائل الإعلام، واعتبرتها الحدث الأبرز من بين أحداث الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي الأسبوع الماضي لجمهورية مصر العربية، رغم أن الزيارة اشتملت على أحداث مهمة، لها دلالات سياسية واقتصادية جمة، بعثت رسائل كثيرة طمأنت المحبين لمصر والسعودية، وأغاظت الكارهين والحاقدين، الذين حاولوا البحث عن نقاط سلبية يستغلونها للنيل من دلالة فلم يفلحوا، وعادوا يجرون أذيال الخيبة، لأن أحداً لم يصدق وسائل إعلامهم التي تنعق كالغربان.
لماذا كان لزيارة ولي العهد السعودي الكنيسة القبطية هذه الأهمية؟ ولماذا لم تكن زيارة عادية، كما يقوم أي ضيف بزيارة معالم ورموز البلد الذي يحل ضيفاً عليه؟ وهل لتوقيت الزيارة علاقة بردود الأفعال التي أثارتها أم أن شخصية الأمير ومكانته هما اللتان أثارتا ردود الأفعال هذه؟ كل هذه أسئلة طرحتها الصورة، وأجابت عنها تفاصيل الحوار الذي دار بين ولي العهد السعودي والبابا تواضروس الثاني، ونشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية نقلاً عن الكنيسة القبطية.
دخل الأمير محمد بن سلمان الكنيسة القبطية في مصر، واجتمع مع كبير أساقفة كانتربري أثناء زيارته لبريطانيا، لتتصدر صورته وسائل الإعلام، مؤكدة أن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام دين عداوة وبغضاء، وإنما دين مودة وصفاء، لكن الذين لا يريدون سماع الحق صم بكم عمي فهم لا يعقلون
وهو حوار حضاري راق، ينم عن عقول متفتحة، وإحساس بالمسؤولية، يفسد على المغرضين مساعيهم لدق إسفين بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، وإشعال نيران الخلاف بين أتباعهما، وهو ما سعت وتسعى إليه القوى التي تصطاد في الماء العكر، كي تحقق لنفسها مكاسب، حتى لو كانت محدودة، لتمنحها القبلة الأخيرة التي تبقيها على قيد الحياة أطول فترة ممكنة. فما الذي دار في هذه المقابل؟ وإلى أي مدى يجب أن يبقى حاضراً في الأذهان كي لا نعطي هذه القوى التي تنتحر كل يوم فرصة للمزيد من تعكير المياه؟
ولي العهد السعودي أكد للبابا أن "الأقباط عزيزون على كل العالم، وليس مصر فقط، والمسلمون يجب أن يعرفوا الدور الوطني الذي لعبته الكنيسة وما تحملته من أذى" وفقاً لنص الوكالة.
وقال للبابا: "نعزيكم في شهدائكم الغاليين علينا وعلى مصر والعرب والعالم، ونشهد لكم بموقفكم تجاه العنف الذي حدث لكم، وعدم رد الأذى بأذى، ذلك الموقف الذي كان مميزاً جداً ومضرب المثل". وأضاف: يقول تعالى (لكم دينكم ولي دين)، وكانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام مسيحية، وعمر بن الخطاب صلى بجانب الكنيسة حتى لا تتحول مسجداً.. وكل هذه شواهد تاريخية للتعايش والتراحم والتآزر".
وختم قائلا: "نؤكد تعاوننا الدائم معكم، التعامل الإسلامي المسيحي بقيادة الأقباط بمصر للمسيحيين في المنطقة، نظراً لمكانتكم التاريخية".. كلمات نابعة من قلب محب، وصلت إلى قلوب أقباط مصر فتلقفتها بحب، ونزلت عليها برداً وسلاماً.
لذلك حمل رد البابا تواضروس الثاني على كلمات الأمير محمد بن سلمان كل معاني التقدير لهذه الزيارة التاريخية، التي وصفها بأنها "زيارة غالية". وقال: "نحن فرحون وسعداء بك، ونسجل كتابة صفحة جديدة في التاريخ". وكشف أن الأمير وجه إليه الدعوة لزيارة المملكة العربية السعودية.
روح جديدة تتخلق في المنطقة العربية، وسط كل هذه النيران التي تشتعل في كثير من أنحائها، ووسط المؤامرات التي تحاك ضدها، ووسط نعيق البوم الصادر من سفراء الظلام. وهي روح ليست غريبة عليها وعلى أبنائها، تبشر بمرحلة جديدة، أهم ملامحها نهاية تأثير تيار الصحوة الإسلامية في المملكة العربية السعودية على مصادر القرار فيها.
وهو تيار نشأ في بداية الثمانينيات من القرن الماضي نتيجة تزاوج بين الجماعة السلفية في المملكة وجماعة "الإخوان المسلمون" الهاربة من بلدانها إلى المنطقة، مدفوعاً بنجاح ثورة الشعب الإيراني على نظام الشاه، التي انتهت باستيلاء الملالي على الحكم، ووصول الخميني إلى السلطة، بعد إقصاء التيار الديني لجميع التيارات التي شاركت في الثورة، وهي تيارات ذات أيديولوجيات مختلفة، توزعت بين الاشتراكية والليبرالية والقومية، لكن التيار الديني تخلص من جميع قادة التيارات غير الدينية عبر محاكمات وإعدامات "صادق خلخالي" الشهيرة، وعبر أجهزة مخابرات الملالي التي طاردت من فرّ من قادة الثورة الذين أوصلوا الخميني إلى كرسي الحكم واغتالتهم.
تيار الصحوة الذي كانت له اليد العليا أكثر من ثلاثين عاماً، أعاد المملكة قروناً إلى الوراء، وحولها إلى مجتمع مغلق، يسوده التشدد والتعصب وإقصاء الآراء والأفكار المختلفة معها، ومعاداة أصحاب الديانات الأخرى، بعد أن كان مجتمعاً منفتحاً يتقبل الآخر ويتعايش معه. لذلك كان الأمير محمد بن سلمان صريحاً حين قال: "لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة، سوف ندمرهم اليوم".
|نريد أن نعيش حياة طبيعية، حياة تترجم ديننا السمح، وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم، ونساهم في تنمية وطننا وأوطان العالم. أعتقد أننا سوف نقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل. السعودية لم تكن كذلك قبل 79. نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه؛ الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم، وعلى جميع الأديان".
بهذه الروح، وهذا الفكر، وهذا التوجه، دخل الأمير محمد بن سلمان الكنيسة القبطية في مصر، واجتمع مع كبير أساقفة كانتربري أثناء زيارته لبريطانيا، لتتصدر صورته وسائل الإعلام، مؤكدة أن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام دين عداوة وبغضاء، وإنما دين مودة وصفاء، لكن الذين لا يريدون سماع الحق صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة