نصادف مؤخرا حملات تستهدف مؤسسة أو برنامجا أو فعاليات، أو شخصية لها إسهاماتها في الشأن الثقافي والمعرفي بأحكام إدانة جاهزة، ومطالبات "متشنجة وغير مُنصفة".
نعم.. يكفي أن يطلق أحدهم إشارة بدء الهجوم الإلكتروني عبر حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، وستكون المهمة يسيرة للغاية، لنجد أولا حسابات الكُنيات المجهّلة والمبهمة، وتلك التي لم يقم أصحابها بأي تعليق سابق، ليشتعل فتيل التعليقات، ويجد كثير من المتابعين أنفسهم في سياق ذات الموجة، التي يعني الخروج عنها التعرض لصنوف من أدوات العقاب المدرجة في سياق "التواصل الاجتماعي"، بدءا من التجاهل، مرورا بالحرمان من الـ"الإشادة"، وصولا إلى التعليقات الساخرة، أو الحجب، أو حتى التشكيك السافر في نيات أصحاب وجهات النظر المغايرة، وغير ذلك حسب طبيعة كل وسيلة.
وخلافا للشأن الفني، الذي ينقسم فيه رواد مواقع التواصل بين مؤيد ومعارض بنسب تبدو متقاربة في معظم الأحيان، يبدو الشأن الثقافي والتنويري والمعرفي مساحة مباحة لتحقيق مآرب ودفاع عن أيديولوجيات وأهداف ومصالح متدثرة وراء "الرأي"، والذي قاعدته الذهبية أن الرأي الشخصي خطأ يحتمل الصواب، ورأي الغير صواب يحتمل الخطأ، ما يعني ألا مجال في سياق الرأي لإطلاق الأحكام، فضلا عن التمادي في تطبيقها وتنفيذها وإسقاط احتمالية صواب سائر الآراء.
وشخصيا أزعم أنني بحكم عملي الإعلامي، كنت قريبا من الأوساط الثقافية العربية، والمحلية في دولة الإمارات، على مدار 3 عقود متتالية، وطوال تلك المراحل والحقب، حققت الكثير من المؤسسات والبرامج والفعاليات الثقافية والمعرفية إنجازات مشهودة، بعضها شكّل علامات فارقة ومنبرا ومشاعل تنوير، وصل إلى الملايين مداها، قبل أن تناله أفواه الراغبين في إطفاء نورها، ودائما ما لا يعدم هؤلاء إيجاد ذريعة، سواء كانت زلة عابرة، أو مختلَقة، أو حتى خطأ أو مخالفة ما قابلة للرد والنقد والاستدراك.
والآن في عصر صناعة "الترند"، صارت مهمة إطفاء مشاعل التنوير أكثر يُسرا، وإذا كان خبراء مواقع التواصل يتحدثون عن إمكانات الكتائب الإلكترونية الإخوانية، أو ما اصطُلح على تسميته بـ"الذباب الإلكتروني"، وتحركاته الممنهجة، فهناك أيضا سِواهم من "حَسَني النية"، إن جاز التعبير، ممن يرون أنهم ملزمون بأن يدلوا بدلوهم في الحكاية المكرورة، سواء بإبداء الرأي، أو إعادة النشر والتداول، فقط من أجل المشاركة والتفاعل!
مشهد وسائل التواصل الاجتماعي قابع في بدائيته، ولا يزال بعيدا عن النضج، واعتباره حكما اجتماعيا ومرآة عاكسة لرأي الناس ينطوي على مخادعة كبرى تستهدف التسليم به لإرضاء راكبي الموجة، من أجل تسليمات أخرى، وإطفاء مزيد من مشاعل الثقافة والعودة إلى إظلام ما قبل التنوير.
المنصات الثقافية والفكرية والإبداعية، مؤسسات وأفراد، يجب أن تكون قريبة بشكل حقيقي من مختلف أطياف المجتمع، كي تستطيع أن تؤثر فيه بشكل إيجابي، وتبقى بمثابة حارس أمين يضمن صد تلك الهجمات الإخوانية الهدامة، والأهم وعيها أنها جميعا في ذات الخندق المقابل للإظلام والتضليل والانغلاق، وأن هناك آمالا كبارا معقودة عليها، كي تكون شريكة أساسية في التنمية الشاملة، التي لن تتحقق أبدا إلا بحضورها المسؤول.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة