كان يا ما كان.. في سالف العصر والأوان.. كان الإنسان يحاول تحقيق غايته الكبرى، التي أغراه بها الشيطان لإخراجه من الجنة، الخلود.
- كيف يحققها وهو الفاني؟
- عن طريق أولاده.
ينجب ولدا يحمل اسمه ويربيه على قيمه، يضع خطة لمستقبله أو يجبره أن يعمل وظيفته نفسها، أو الوظيفة التي يختارها له.
ويا لفرحته لو وصف أحدهم ابنه أنه "ابن أبيه"، بما يعني أنه يشبهه، فلا يفرق المرء بينهما.. فهذا دليل على امتداد صورته بعد رحيله وتوسع جيناته ونفوذه ودائرة تأثيره.
بتطور البشرية تتطور صور التعبير عن النفس، لكن يبقى الإنسان إنسانا… بصفاته وغرائزه وسمات عقله.
قد تأخذ تلك السمات أشكالا أخرى، اعتمادا على طبيعة المرحلة، لكن جوهرها لا يتغير.. تتخذ أشكالا أكثر استتارا، لكنها تبقى موجودة تُفصح عن نفسها في لفتات لا تخفى على أي متأمل.
في عصر أكثر حداثة، يطوّر البشر أدواتهم بزعم خدمة أنفسهم والآخرين وتقليل معدل "الخطأ البشري"… لكن السؤال هنا: هل يطور الإنسان خوارزميات تحقق أهدافا مجردة بلا أي نزعة "بشرية"، أم أنه يُكسبها بعضا من صفاته دون وعي؟
بمعنى آخر، هل برامجنا وتقنياتنا مجرد آلات أم أنها امتداد لنا نحن البشر مثلها مثل أبنائنا الذين نربيهم على قيمنا وطرق تفكيرنا؟
تسرد "هانا فراي" في كتابها "أهلا بالعالم" أمثلة تقصد بها شرح احتمالية خطأ الخوارزميات، وأنها ليست معصومة، وأن علينا ألا نسير وراءها بعقل مُغيّب، بافتراض أنها آلات مبرمجة لا تخطئ، باعتبار أن الخطأ دائما صفة بشرية.
فمثلا الخوارزميات، التي يستخدمها السلك القضائي في الولايات المتحدة لإصدار أحكام الخروج بكفالة بناء على احتمالية إعادة ارتكابه الجريمة نفسها من عدمها.. تقول "هانا" إن الخوارزم يتخذ قراره حسب معطيات أو مدخلات معينة أو أسئلة محددة يجيب عنها القاضي.
السؤال هنا: مَن أدخل له هذه المدخلات من الأساس؟
الدراسات، التي أجراها الإنسان بالطبع. تقول الدراسات إن معظم مرتكبي جرائم القتل من الرجال، وبالتالي إذا كان المتهم رجلا، فاحتمالية أن يصنفه الخوارزم "عالي الخطورة" أعلى بكثير مما لو كانت المتهمة امرأة.. فتقل احتمالية أن يصدر الخوارزم توصية تسمح بخروج "المتهم الرجل" بكفالة. لكن هل بالتأكيد سيرتكب هذا الرجل جريمته مرة ثانية؟.. لا.
وهل كونه رجلا ينتمي للفئة الأكثر ارتكابا لتلك الجريمة كافٍ لاعتباره عنصر خطر دون النظر لباقي مقومات حياته؟
ألا يذكرك ذلك بقليلي الثقافة من البشر الذين يعتبرون أهل منطقة معينة من العالم كلهم بخلاء أو أغبياء؟
الأدهى من ذلك، أنهم لاحظوا أن "احتمال أن يصنفك الخوارزم عالي الخطورة أكبر مرتين لو كنت أسود، مما لو كنت أبيض".
هل نحن أمام روبوت عنصري؟ ألا يفترض أن تكون الميزة التي نتجه بسببها إلى استخدام البرامج أن تلك البرامج حيادية تماما بلا مشاعر أو أهواء تحكم على أساسها.
نسينا حينها أن مَن يكتب الخوارزم بالأساس إنسان. مَن يعطيه أساسيات الحكم على الأشخاص إنسان، وهو ينفذ بلا تفكير.
هنا تحولت الميزة إلى عيب.. ذلك لأن الآلة ليس لها عقل أو مشاعر تحكم بها، لكنها تحكم بعقل ومشاعر المبرمِج، أو الدارس الذي أجرى البحث الذي صُمم على أساسه البرنامج.
فالبشر يعطون الآلات معطيات وفي داخلها نظرتهم هم إلى الأشياء، وبذلك يصدرون أحكامهم على نحو غير مباشر يريحون به ضمائرهم من ناحية، ويسكتون غيرهم من ناحية أخرى، بدعوى أن هذا حكم "الآلة الحيادية".
هنا تسقط أسطورة حيادية الآلة، لأن من صنعها ليس حياديا.. "الآلة منحازة لأن الواقع منحاز".
على نطاق آخر، نشرت مجلة "نيتشر" العلمية موضوعا عام 2015 بعنوان "روبوتات لها غرائز"، تناقش فيه تجارب تطوير روبوتات ذكية لها القدرة على التعلم من التجارب السابقة وتوقع أحداثا مستقبلية بناء على تلك التجارب اعتمادا على نظرية "كلما ازداد العمق الزمني للتنبؤات المستقبلية الدقيقة التي يستطيع كائن أو آلة القيام بها، دلّ ذلك على أنه أكثر ذكاءً".
وخلصت التجربة في النهاية إلى أن تطوير روبوت بهذا الشكل بعيد المنال أكثر مما يتوقع البشر.. فقد بُنيت قدرات البشر على توقع المستقبل من تجميع معلومات وتجارب عمرها ملايين السنين، نتوارثها بالجينات منذ جدودنا الأوائل.. فلا فرصة أمام هذا الروبوت مهما زوّدته بقواعد بيانات وتجارب وخرائط تفكير أن ينافس جينات عمرها ملايين السنين في القياس وإصدار الأحكام.
من هنا نخلص إلى أن ميزة الروبوت "الحيادية" مجرد أسطورة غير منطقية، وميزته كآلة تستوعب عددا أكبر من التجارب، تمكّنها من إصدار حكم أكثر شمولية وصحة، أسطورة أيضًا.. الموضوع ما هو إلا امتداد لنا، بلا ميزات خرافية نتوقعها ونعول عليها.. مجرد وسيلة مساعدة لا تحل محلنا بالكلية أبدًا حتى في أكثر السيناريوهات تشاؤما و"روايات عالم الواقع المرير" المستقبلية، لا غنى عن الإنسان المتطور مهما طوّر من آلات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة