قبل أن يُسدل الستار على مؤتمر غلاسكو للمناخ جابت شوارع لندن ومدن بريطانية عدة تظاهرات تطالب بأفعال، لا أقوال، في مواجهة تحديات كوكبنا.
كانوا عشرات الآلاف ممن يرون الخطر بات على بعد خطوات منا جميعا.. هم يعرفون جيدا أن كل يوم، وربما كل ساعة، تتقلص فرص البشرية في البقاء على قيد الحياة.
مثل هذه الآلاف عجّت بها شوارع مدن وعواصم أخرى حول العالم.. وجميعهم ينتمون إلى ذات الفئة التي تتقدم على الجميع في استشعار الموت القادم عبر الفيضانات والحرائق والكوارث الطبيعية، التي يزداد عددها ويتسع ضررها عاماً بعد عام.
وهُم بذلك لا يمارسون رفاهية في التظاهرة أو بذخا في الاحتجاج، وإنما يدافعون عن حق أطفالنا وأحفادنا في الحياة على الأرض، التي لا نعرف حتى الآن كوكبا غيرها يصلح للعيش.
يوم واحد فقط تتنقل فيه بين المحطات ووسائل التواصل الاجتماعي، يكفي لتعرف ماذا يخاف هؤلاء المحتجون، الذين يقطعون الشوارع ويغلقون الساحات في الغرب.. حرائق في كل مكان، انهيارات جليدية، ذوبان جبال من الثلوج، وفيضانات تبتلع عُمرانا ويابسة، ناهيك بملايين الحيوانات، التي تنفق بسبب كل هذا، وتلك الأمراض والأوبئة، التي تصيب البشر وكل من يتنفس على الأرض من مخلوقات حية نعرفها أو لا نعرفها.
هل كان يجب على المتظاهرين أن ينتظروا حتى انتهاء مؤتمر غلاسكو للمناخ ويستمعوا إلى البيان الذي يعلن عن حزمة من القرارات التي لن تنفذ، في غالبيتها على الأقل؟!
السبب ببساطة في أن هذه القرارات لن تنفذ أن رؤساء دول كبرى مؤثرة في هذا الشأن جميعهم غابوا عن المؤتمر.
ليس فقط تغيّب رؤساء دول عن قمة غلاسكو للمناخ هو ما يبعث على التشاؤم بخصوص الوصول إلى نتائج عملية، وإنما أيضا تلك التجربة السيئة التي عايشتها الشعوب في فشل حكوماتها بتنفيذ تعهداتها التي صدرت عن مؤتمر باريس للمناخ عام 2015.
وهذا الفشل تفضح تداعياته أرقام وحقائق لا يمكن تجاهلها، حيث أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن السنوات الممتدة بين 2015 و2021 هي أكثر الأعوام حَرّاً، وقال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إن التقرير السنوي حول وضع المناخ يكشف "أن كوكب الأرض يتحول أمام أعيننا.. من أعماق المحيطات إلى قمم الجبال يؤدي ذوبان الكتل الجليدية والظواهر المناخية القصوى في كل أرجاء الأرض إلى تضرر أنظمة بيئية وشعوب".
التقرير يقول إنه في عام 2021 وحده عرف العالم موجات حَر شديدة في أمريكا الشمالية وجنوب أوروبا، وحرائق مدمرة في كندا وسيبيريا واليونان، إضافة إلى موجة برد قوية وسط الولايات المتحدة وفيضانات في الصين وأوروبا الغربية، ناهيك بجفاف سبَّب مجاعة في مدغشقر، عطفاً على ارتفاع قياسي في مستوى المحيطات من جراء ذوبان الجليد.
ثمة شواهد كثيرة على ما جرَّه التغير المناخي من تداعيات مهولة على حياتنا منذ مؤتمر باريس عام 2015 حتى الآن.
من هنا يصبح تقدير نوائب ستة أعوام أخرى من الفشل العالمي في مواجهة مشكلات البيئة، أمراً مشروعا ويحتمل مخيلة واسعة تشبه تلك التي يمتلكها صناع أفلام الخيال العالمي في هوليوود.
في المقابل، هناك مبادرات وطنية طموحة جدا لمواجهة أخطار الاحترار والانبعاثات السامة، ولكن ثلاث مشكلات تخفض سقف التفاؤل بهذه المبادرات، أولها أنها تمتد على سنوات طويلة، أقلها حتى عام 2030.. وثانيها أنها لا تُترجَم إلى خطوات واقعية يلمسها البشر بأيديهم ويتعايشون معها، أما ثالث مشكلة فهي أنها تبقى منقوصة أو ضعيفة التأثير بتعبير أدق، لأنها لا تستند على تعاون وعمل مشترك بين الدول.
على ضوء هذه المعطيات لا يبدو أن أنصار البيئة سيعرفون الراحة والاطمئنان خلال وقت قصير، بل ربما نشهد اتساعا في رقعة احتجاجات المناخ في الزمان والمكان والأدوات.
لقد بات لـ"فرسان البيئة" إن جازت تسميتهم، دعم إعلامي كبير اليوم، كما أن منصات التواصل الاجتماعي تلعب دورا إيجابيا جدا في حشد جهودهم وتقريب المسافات بينهم، إضافة إلى استقطاب من يشاركونهم هواجسهم ومخاوفهم أينما كانوا.
الخطر، الذي يهدد حياتنا بسبب الاحتباس الحراري وتلوث الهواء والماء، لا يحتاج فقط إلى تظاهرات أنصار البيئة، وإنما إلى احتجاجات دول ومنظمات أممية أيضا.. لذا يجب أن تكون هناك مواقف سياسية وعقوبات اقتصادية تُفرض على الدول التي ترفض مجاراة الجهود العالمية في الحفاظ على البيئة، كما يجب أن تفرض الحكومات تشريعاتٍ وقرارات تجبر الشعوب على سلوكيات خضراء وأنشطة مستدامة في حياتهم اليومية.
الاحتجاج على تلوث البيئة وكوارث التغير المناخي لا يجب أن يتجسد فقط بصرخات تبوح بها حناجر مئات الآلاف أو الملايين حول العالم، وإنما يجب أن يتحول إلى مناهج دراسية وفعاليات رسمية ومحافل دولية.. وعندما يحدث ذلك، يتحول الاحتجاج إلى سلوك طبيعي تحميه القوانين وتُفرض على المخالفين له غرامات وعقوبات.
رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، اختصر ما نواجهه بالقول أمام قمة غلاسكو: "إننا نحفر قبورنا بأيدينا".. وهذا لا يحدث فقط إذا ما قررنا الاستسلام أو تجاهل خطر التغير المناخي، وإنما أيضا إذا اتخذنا أنصاف حلول أو أنصاف احتجاجات ضده.
يجب أن نصنع ثورة كاملة ضد التلوث البيئي والاحتباس الحراري، وإلا سيدفن العالم كله أحلامه بمستقبل أفضل تحت تراب المدينة الاسكتلندية الباردة بعد بضعة أيام.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة