احتجاجات إيران.. هل تسقط دولة الفقيه؟
دوافع الإيرانيين أنفسهم للثورة على نظام الثورة والولي الفقيه أكثر عمقا وأكبر حجما من غيرهم، رغم اشتراكهم جميعا في رفض إفساد أوطانهم
سنويا، يشهد الداخل الإيراني احتجاجات شعبية، ولكن تتميز الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، في البداية ضد رفع أسعار الوقود، عن سابقاتها في أشياء كثيرة تجعلها الأقوى منذ سنوات، وتجعل النظام في أعلى درجات اهتزازه واهتزاز شرعيته معه.
فقد تطورت الاحتجاجات الشعبية الإيرانية هذا العام بشكل أكثر وضوحا وحسما واتساعا من سواها - بما فيها مظاهرات الإصلاحيين والحركة الخضراء سنة 2009 - مطالبة بإسقاط نظام الولي الفقيه الحاكم، ولم تقف فقط عند حدود إصلاحها كما توقفت الاحتجاجات السابقة، ما دفع النظام إلى اعتقال ما لا يقل عن 5 آلاف متظاهر، ومقتل العشرات، وفرض سياج من الصمت والخوف، بفرض التعتيم الإعلامي في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ثم قطع الإنترنت يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ومطاردة المراسلين وتهديد أسرهم، كما يذكر مركز إيران لحقوق الإنسان في تقرير له في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ولعل خطورة هذه الموجة من الاحتجاجات تزامنها مع ما يشبه الثورة الإقليمية ضد السياسات الإيرانية في بؤر مركزية تابعة لها في المنطقة، حيث يشهد كل من العراق ولبنان احتجاجات شبيهة ضد التدخل الإيراني وممارسات وكلائه القمعية والفاسدة للمعارضة، ما يشي بفقدان نموذج نظام ثورة الولي الفقيه نموذجها وجاذبية تصديرها لدول أخرى، فضلا عن اهتزاز شرعيتها وتراجع قابليتها بين صفوف الشعب الإيراني نفسه الذي يرفض تسونامي الفساد الداخلي المستشري، كما يرفض استهلاك موارد البلاد في تمويل الإرهاب والوكلاء الخارجيين، بينما يعاني هو من كل اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا على مختلف المستويات.
احتجاجات عفوية تتسع انتظاما
ربما كانت دوافع الإيرانيين أنفسهم للثورة على نظام الثورة والولي الفقيه أكثر عمقا وأكبر حجما من غيرهم، رغم اشتراكهم مع غيرهم في رفض التدخل والمال الإيراني في إفساد أوطانهم وحيواتهم، وإن تشابهت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وملامح الفساد التي يعاني منها العراقيون واللبنانيون، عن طريق تحكم نخب طائفية وسياسية، فضلا عن تسلطها العنيف على سواها في مداخيل واقتصاد البلاد.
نرى عفوية الاحتجاجات الإيرانية الراهنة تماما، بعيدا عن الترويج التآمري للنظام الإيراني بدعم أنظمة عربية وغربية معادية له للثورة ضده، وليس اندلاع شرارتها في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، بسبب رفع أسعار الوقود إلا دلالة على هذه العفوية الشعبية، فلم تقم بدعاوى سياسية أو انفصالية أو طائفية رغم وجود هذه الأزمات جميعا داخل فضاء ما يعرف بـ"شعوب إيران" المتنوعة والمختلفة والمؤثرة.
ولكن سنكتفي هنا بالعرض لمعاناة الشعب الإيراني بشكل تركيبي، لنكشف ما تنفقه إيران على تصدير الثورة والفوضى في الإقليم ومعاناة الشعب مع ما يسميه بعض الكتاب الإيرانيين "تسونامي الفساد" الذي يمكن أن نضيف له "تسونامي الاستبداد" الذي لم يرحم في السابق إماما كـ"آية الله حسين علي منتظري (1922- 2009) الذي كان يعد الرجل الثاني في الثورة بعد الخميني، ولكن عام 1989 تم عزله من مناصبه بسبب معارضته السياسية، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله بمدينة قم حتى وفاته عام 2009".
كما تم استبعاد "حسن الخميني" حفيد الخميني نفسه أواخر يناير/كانون الثاني عام 2016 من انتخابات مجلس الخبراء، وقد هدد في مارس/آذار عام 2018 بأن انهيار النظام صار وشيكا بعد تجاهل النظام مطالب المتظاهرين في احتجاجات العام الماضي 2018، وكثيرون غيرهم ممن يحسبون على الإصلاحيين في النظام لتنفجر المطالبات هذا العام في الموجة الحالية بوضوح وحسم يصر على إسقاط النظام، ومواجهة الولي الفقيه نفسه وكل نظامه وليس بعضا منه.
مواجهة الفساد والاستبداد
احتلت إيران المرتبة رقم 138 عالميا عام 2018 في مؤشر الشفافية الدولي بين 178 دولة من دول العالم في معدل الفساد.
انحدار متصاعد طرديا مع تصاعد قبضة الاستبداد والقمع والتدخل الخارجي، فقد تصاعد من عهد خاتمي"1997- 2005" من أقل معدل له عام 2003، حيث بلغ المرتبة "78 فقط" تدريجيا حتى بلغ قمته عام 2009 - عام الثورة الخضراء - واصلا المرتبة 168 ليتراجع قليلا عام 2010 في المرتبة 146 ثم يواصل التراجع قليلا حتى يعود لتصاعده مع بداية التدخل في سوريا عامي 2012 و2013، حيث بلغ المرتبة 144 وعاود التصاعد مجددا العام الماضي ببلوغه المرتبة 138.
وهو الفساد الذي يمتد ليشمل مختلف جوانب الحياة العامة في إيران، من النظام القضائي الذي تسيطر عليه المحسوبية والرشوة إلى النظام الأمني الذي عرف قضية فساد شهيرة في يوليو/تموز عام 2015 باختلاس 350 مليون جنيه إسترليني داخل الجهاز الأمني منع وأوقف خامنئي الولي الفقيه التحقيق فيها وقد علق إسماعيل أحمدي، مقدم قائد الشرطة حينئذ، بأنه أجبر على الاستقالة حتى لا يكشف أسماء بعض كبار المسؤولين بها، وكذلك في مجال الخدمة العامة والنظام الضريبي والمالي والاستثمار، فضلا عن القمع وتقييد الحريات قانونا وممارسة.
وتكشف بيانات رصدتها وزارة الخارجية الأمريكية في مايو/أيار عام 2019 أن إجمالي ثروات المسؤولين الإيرانيين المتورطين بشبهات فساد تتخطى مليارات الدولارات، حيث كان آخرهم محافظ البنك المركزي الأسبق محمود بهمني (مقيم خارج إيران) المتهم بالاستيلاء على نحو 2.7 مليار دولار أمريكي من عوائد تصدير النفط الخام ومكثفات الغاز الإيرانية قبل سنوات.
ويعد يحيي رحيم صفوي، القائد السابق لمليشيا الحرس الثوري والمستشار الخاص للمرشد الإيراني علي خامنئي، أحد أبرز وجوه الفساد في النظام الإيراني الحالي، وتتجاوز حصيلة ثروة صفوي مليارات الدولارات (غير محددة) حصل عليها نتيجة التلاعب في الأسواق المحلية، إلى جانب استخدامه ممارسات تجارية غير عادلة بغية تحقيق أرباح طائلة.
وطال الفساد مختلف مؤسسات الدولة الإيرانية، بما فيها مؤسسة الولي الفقيه، يتجاوز حجم ثروة مرشد نظام ولاية الفقيه علي خامنئي 200 مليار دولار أمريكي، في حين يقل أجر العامل الإيراني عن دولار واحد يوميا.
وتعد أسرة "لاريجاني" أبناء آية الله هاشم آملي لاريجاني الخمسة أقوى أسرة في إيران، فهي تضم علي لاريجاني اللاعب الأساس في السياسة الخارجية الإيرانية، والمقرب من خامنئي والمتورط في ملفات فساد عديدة حسب الإعلام الإيراني، لكن يتم قمع العارفين بها مع حصانة المرشد الذي يمنع التحقيق فيها.
ولكن يعد الشقيق الثاني صادق لاريجاني (مواليد سنة 1960) الذي تولى رئاسة الهيئة القضائية بعد أشهر من اندلاع أحداث 2009 (الحركة الخضراء)، ليصبح أصغر رئيس للهيئة القضائية، ولعب دورا مهما في قمع المتظاهرين والتنكيل بالمعتقلين، بالتصديق على الأحكام السيئة التي صدرت في حقهم آنذاك.
ووجهت لاريجاني اتهامات شديدة في قضية كبرى بالاشتراك مع محافظ طهران وتقاضيه رشاوى بخصوص بعض القضايا وفتحهما عشرات الحسابات السرية التي تدر الملايين، كما أتى في رسالة للرئيس السابق أحمدي نجاد موجهة للمرشد علي خامنئي في أغسطس سنة 2019، كما يبرز دور الأشقاء الثلاثة الآخرين الذين يتولون مواقع مهمة في النظام، ولا تزال تحوم حولهم الشبهات ولكن يكشفها البعض من أجنحته في صراع أجنحة تصاعد في السنوات الأخيرة.
وقد فرض الاتحاد الأوروبي عام 2012 عقوبات على صادق شخصيا، وهو ما فعلته أمريكا كذلك في 2018، إذ فرضت عقوبات جديدة عليه لمساعدته الأمن في قمع المظاهرات الأخيرة، وتعذيب المعتقلين وتعريضهم لعقوبات قاسية.
كما يمتلئ ملف الفساد في إيران بالكثير من وجوه المسؤولين الآخرين أشهرهم مكارم شيرازي الملقب بـ"سلطان السكر"، حيث أغرق الأسواق على مدار سنوات عدة مضت في مقابل تحقيق ثروة قدرت بـ100 مليون دولار أمريكي.
هكذا يعرف الشعب الإيراني ما يعانيه من "تسونامي الفساد المدوي" الذي يلف كل قيادات النظام، كما يسميه الكاتب "اشکان بنکدارجهرمی" في مقاله المعنون "تسونامي الفساد" في 14 يناير عام 2017 الذي أكد فيه أن إيران تشهد ما يمكن تسميته "تسونامي الفساد"، حيث لم تعد كلمة "الاختلاس" دليلا على الجريمة وعدم النزاهة بل أصبحت مرادفا للقوة والسلطة، وهو ما أدى إلى اتساع الفجوات بين طبقات الشعب الإيراني، نتيجة نمو ونفوذ وفساد طبقة رجال الدين "الملالي" والملتحقين بهم.
وكون الكاتب المذكور يتكلم من داخل النظام ومن أجل إصلاحه إرهاصا بثورة لم يتوقعها تشهدها الشوارع الإيرانية منذ أسابيع في العام الراهن، أكد أن الشعب فقد إيمانه بالثورة ووعودها الكاذبة التي أطلقها مدعوها ولا يزالون يطلقونها.
أوضاع اقتصادية واجتماعية مزرية
يذكر أن نحو 70% من الشركات الإيرانية قد أغلقت أبوابها، نتيجة للتدهور الاقتصادي في الأعوام السابقة، بينما تعجز الحكومة عن دفع رواتب آلاف الموظفين، كما يصل الريال الإيراني إلى أدنى مستوى في تاريخ العملة الإيرانية.
وعن الأوضاع الاجتماعية المزرية في إيران يمكننا أن نشير إلى ما ذكرته صحيفة (كيهان) الإيرانية في عددها الصادر في 3 فبراير/شباط عام 2011، من أن عدد عمليات الانتحار في إيران يصل إلى 3650 فردا في السنة، أي 10 حوادث انتحار يوميا، وهو ما زاد في السنوات الأخيرة بشكل مخيف، فقد أعلنت وزارة الصحة الإيرانية، في تقرير لها صدر أوائل سبتمبر/أيلول عام 2019 ، تسجيل نحو 100 ألف محاولة للانتحار- على الأقل- داخل البلاد سنويا التي تضم 31 محافظة، خلال الفترة من مارس/آذار 2018 إلى مارس/آذار 2019.
وعن حالات الإجهاض، ذكرت وزارة الصحة الإيرانية، في مجلتها الصادرة في شهر مارس/آذار عام 2011، أن 9 عمليات إجهاض تقع كل دقيقة في إيران، أي ما يعادل 90 ألف حالة في السنة، نجد أن الإحصاءات زادت بشكل مرعب في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 لتبلغ 1000 حالة يوميا، 10 منها فقط تتم بشكل قانوني.
وذكرت مديرية محاربة الإدمان في أصفهان وعلى مدونتها الفارسية، في 24 أبريل/نيسان عام 2011، أن معدل الإدمان في إيران يبدأ عند الأطفال في سن 13 سنة، وأن نصف المدمنين في إيران هم من الشباب! وقد زادت في السنوات الأخيرة معدلات الإدمان خاصة بين النساء، فحسب تقرير لوكالة الأنباء الإيرانية في 17 يوليو/تموز عام 2017 فقد بلغت نسبتهن ما يعادل 13% من نسبة النساء الإيرانيات!!
وذكر التقرير نفسه، حسب إحصائيات الطب الشرعي الإيراني، أنه في شهر أبريل/نيسان عام 2017 بلغ عدد الأشخاص الذين خسروا حياتهم بسبب الإدمان 318 شخصا، وأنه يوميا يتم استهلاك 2 طن مخدرات تقريبا في إيران في مقدمتها الهيروين.
وتشير إحصاءات عديدة لكم الردة والتحول الديني بين الشباب الإيراني، نظرا للقمع الهائل لحكومات الثورة على الحريات الدينية والشخصية!
هكذا يعاني المجتمع والشعب الإيراني المرض والفقر واليأس والانحلال، بينما تذهب أموال التنمية لتسونامي الفساد ورموزه الكبار أو لتمويل الإرهاب الخارجي الموالي للنظام ورموزه كما سنوضح في الفقرات التالية.
مليشيات الخارج
أدرك الشعب الإيراني بقوة، وهو يحيا على أرض غنية وثرية اقتصاديا وحضاريا، أن سياسات النظام الخارجية الصراعية والتدخلية وعلاقته الملتبسة بالعالم والمنطقة، وتمويله الإرهاب الذي يعد أول الداعمين له، كما يؤكد تقرير الخارجية الأمريكية سنويا، هو مصدر كل أزماته والعائق الرئيس أمام حياته المستحقة وأمام رفاهيته المطلوبة أو على الأقل حقوقه الأساسية التي لم يعد يستطيع الحصول عليه.
يدرك الإيرانيون تدهور وسوء الخدمات، بينما ينفق نظام الولي الفقيه نحو 16 مليار دولار على العراق ولبنان واليمن منذ عام 2013 حتى عام 2019، وأنفقت 10 مليارات دولار أخرى على سوريا. وتنفق 700 مليون دولار سنويا على "حزب الله"، في ظل عقوبات دولية صارمة قللت من قدراتها المالية والحكومية والأساسية، بشكل مستمر، يعاني الشعب الإيراني ويدرك خطأ سياسات حكومته ونظامه الأصولي والرجعي وخطورتها، ومن هنا كانت الاحتجاجات الأخيرة التي تقطع وتمزق عباءة الولي الفقيه، وتصر رغم كثرة الضحايا ومطرقة القمع وماكينة الموت الشديدة على إسقاطه!
كما يدرك الإيرانيون زيف وفشل نظرية المؤامرة التي يروجها النظام ضد معارضيه وشعبه بل الخارج المعارض لسياساته، وأنها استهلكت أغراضها، كما أن التكرار السنوي للاحتجاجات أعطى قادتها، رغم اعتقال ما لا يقل عن 180 منهم، والمحتجين حصانة وقدرة أكبر على الفعل والتأثير.
وربما تفشل سياسة الولي الفقيه في تطويف الثورة السورية أو العراقية أو اللبنانية أو اليمنية عبر توظيف الطائفة لصالحه، فالثورات تنجح في تجاوز عائق الطائفية إذا كانت الأغلبية على مذهب واحد، ولن تنجح استعانته بفيالق وعناصر حزب الله وجيش المهدي وعصائب أهل الحق وغيرها من المليشيات، فضلا عن الباسندران والحرس الثوري في قمع المواطنين، كما كان في أحداث الحركة الخضراء وفي أحداث إقليمية أخرى عام 2011 و2012، لأن مجتمعه منسجم طائفيا وكل وكلائه مشغولون بمصائبه الخاصة!!
كما أن الأزمات واضحة وعميقة ويصعب العناد معها كما يفعل خامنئي كل مرة، ويحذره روحاني، حتى إن هدأت أو تعبت قليلا فربما تشتعل بالجميع منتصرة في وقت آخر قريب.