ماذا نفعل مع إيران؟
الاعتداءات الإيرانية هي تحركات لها أهداف استراتيجية، وليست مجرد مناكفة لإغاظة الخصوم.
ماذا نفعل مع إيران، وما هي الاستراتيجية المناسبة للتعامل معها؟ هل نريد معاقبة طهران على تصرفاتها العدوانية؟ أم دفعها لتغيير سياساتها العدوانية؟ أم تغيير النظام الحاكم كلية؟، ثلاثة اختيارات سياسية، تختلف عن بعضها نوعيا، وإن تقاطعت في بعض الجوانب.
إيران تتصرف بعدوانية منتهكة كل القواعد المرعية في التعامل بين الدول، ففي الأشهر الستة الأخيرة ارتكبت طهران سلسلة من الهجمات العدوانية ضد ناقلات ومنشآت نفطية تابعة لدول مجاورة وأخرى من خارج المنطقة، لكن حتى الآن لم تلق العقاب الملائم لهذه الاعتداءات.
صحيح أن العقوبات الاقتصادية على إيران قد أصبحت أكثر إحكاما بعد كل عدوان جديد، لكن إيران لم تلق عقابا من نفس نوع العدوان، فاستخدام القوة المسلحة من جانب إيران لم يقابله رد مماثل ضدها.
إيران دولة مارقة، لكنها ليست دولة مجنونة تتصرف بلا منطق؛ فما هو المنطق وراء اعتداءاتها؟ سلسلة الهجمات بدأت في شهر مايو/أيار 2019، مباشرة بعد انتهاء مهلة الأشهر الستة التي منحتها واشنطن للدول الأكثر اعتمادا على النفط المستورد من طهران، من أجل توفيق أوضاعها، وتوفير مصادر بديلة للنفط الإيراني.
كان الحصار الاقتصادي يزداد إحكاما على إيران، وكان حكام طهران يبحثون عن مخرج، فتصوروا أن الاعتداء على الناقلات سيستدعي ردا عقابيا، تستغله إيران لشن عدوان جديد، وتزداد الأزمة تصعيدا، حتى يتدخل الوسطاء لمنع تحول الأزمة إلى انفجار كبير، ويتم التوصل إلى حل يفك الحصار عنها.
الاعتداءات الإيرانية هي تحركات لها أهداف استراتيجية، وليست مجرد مناكفة لإغاظة الخصوم. وبالتالي فإن الامتناع عن الرد، وتفويت فرصة التصعيد التي سعت لها طهران قد أفشل خطتها، عبر التركيز على ما هو استراتيجي، وعدم الانشغال بالتكتيكات.
من الوجهة الاستراتيجية كان الامتناع عن إعطاء إيران التصعيد الذي سعت له هو القرار الصائب. لكن من الوجهة التكتيكية فإن طهران تبدو كما لو كان بإمكانها التصرف كما تشاء آمنة من العقاب، وأنه فيما يعاني نظام الملالي من الضغوط الناتجة عن الحصار الاقتصادي، فإن بإمكانه أن يزعم أن كل هذه الضغوط لم تنل منه، وأنه على العكس يتمتع بحرية حركة وحصانة، على عكس القيود والانكشاف الذي يعاني منه الخصوم.
المشكلة الأخرى المترتبة على تغليب ما هو استراتيجي على ما هو تكتيكي في التعامل مع إيران هي أن هناك الآن في طهران من يظن أن بإمكانه ارتكاب المزيد من العدوان.
فبينما نعتقد نحن أننا أفشلنا الخطة الإيرانية، فإن هناك في طهران من يعتقد أن الخطة لم تفشل، ولكن الاعتداءات لم تكن كبيرة بالقدر الكافي لإحداث الأثر المطلوب، وأن ما عليه سوى تكرار الأمر مرة أخرى، لكن على نطاق أكبر، وبوطأة أثقل.
الأمر الذي يطرح على صانع القرار عندنا سؤالا يتعلق بما إذا كان بإمكاننا تجاهل الاعتداءات الإيرانية إلى ما لا نهاية، وما هو الحد الذي لن يمكننا بعده تجاهل الاعتداءات، وما إذا كنا سنجد أنفسنا مضطرين في النهاية للعب بمنطق تكتيكات طهران، وعلاقة كل ذلك بالأهداف الاستراتيجية المطوب الخروج بها من هذه الأزمة.
لكن هناك من يرى أنه لا يجب علينا الانشغال بمسألة معاقبة إيران، وأن التصرف وفقا لمنطق "واحدة بواحدة" ليس هو الأسلوب المناسب للتعامل معها. على العكس فإن علينا التركيز على تغيير سلوكها لا معاقبتها.
المنطق هنا هو أننا نتعامل مع طهران الدولة، وأن الدول، بما فيها إيران، تتصرف بعقلانية، فتسعى لتعظيم مكاسبها وتقليل خسائرها؛ وكل ما علينا القيام به هو إيجاد توليفة الحوافز والقيود التي تغريها على التصرف بطريقة أقل عدوانية، تحترم القواعد المرعية في العلاقات بين الدول.
وفق هذا المنطق فإن إيران تتصرف بعدوانية لا لشيء إلا لأن هناك بيئة وظروفا وفرصا تجعل التصرف بهذه الطريقة مغريا ومفيدا بالنسبة لها، وأنه لو تغيرت البيئة والظروف والقيود والفرص فإن طهران، نفسها، أي بنفس القيادة والنخبة الحاكمة والعقيدة المهيمنة، ستتصرف بشكل مختلف، وأنه ليس لنا أن ننشغل بما يجري فيها، فكل ما يهمنا هو ما يصدر عنها من سياسات وقرارات تؤثر في مصالحنا وأمننا.
وفق هذا المنطق فإن السبب في السياسة العدوانية التي تتبعها إيران لا يوجد داخلها، وإنما يوجد في البيئة المحيطة بها؛ وبالتالي فإن عبء تغيير سياستها يقع خارج إيران، وليس داخلها، إنها مسؤولية الأطراف الدولية والإقليمية التي عليها التصرف بطريقة تغير البيئة المحيطة بإيران، وتخلق هيكلا جديدا للقيود والفرص، وعندها سيتغير سلوك إيران العدواني، حتى لو ظل كل شيء آخر في إيران ثابت على حاله.
لكن هل فعلا يمكن تغيير سلوك إيران من دون تغيير نظام الحكم المسيطر هناك؟ هل طهران هي التي تصدر الأوامر للاعتداء على الجيران، أم أن من يقوم بذلك هم الجالسون على مقاعد السلطة؟ هل هي التي تعتدي علينا وتعرض أمننا للخطر، أم أن الأمر كله في يد من يحكمونها، ومن اختطفوا حق التحدث باسمها؟
الحقيقة هي أننا لا نتعامل مع إيران، ولكننا نتعامل مع من يحكمها، ومن يحتكر التحدث وإصدار الأوامر باسمها.
المتحدثون باسم إيران، بغض النظر عما إذا كانوا يتمتعون بحق شرعي للتحدث باسمها أم لا، هم المشكلة، فهناك شيء ما خطأ في نظرتهم للعالم، وفي نوع القيم التي تحركهم، وهذا هو ما يدفعهم للعدوان.
وفق هذا المنطق فإن سبب العدوانية يقع داخل إيران وليس خارجها، فمهما كان شكل البيئة المحيطة بها، ومهما كانت القيود والفرص الموجودة في هذه البيئة، سيظل حكامها يجدون فيها ما يزين لهم العدوان، وما يجعلهم مستعدين للزج ببلدهم في صراع تلو الآخر، حتى لو لم تعد عليهم هذه الصراعات بالمكسب، وما يجعلهم يعتقدون أن تأخر الفوز لا يعني أنه لن يأتي أبدا، فالأمر يحتاج إلى التحلي بالصبر الاستراتيجي الطويل، ليأتي النصر في آخر المطاف.
المشكلة وفقا لهذا المنطق هي في النخبة الحاكمة في طهران، وفي العقيدة التي تؤمن بها، أي في العقيدة الثورية النرجسية المتفائلة، التي ترى الحق، كل الحق، في جانب إيران الدولة والقومية والثورة والمذهب، والباطل كل الباطل في الجانب الآخر من الصراع؛ وأنه لابد للحق أن ينتصر في النهاية، لأنه هذه هي حتمية التاريخ والإرادة الإلهية.
إنها العقيدة الثورية التي تنزع كل شرعية وكل أساس أخلاقي عن الخصوم؛ وتنظر لهم باستكبار وتعال، لدرجة تجعل من قبولهم أو التعايش معهم تنازلا أخلاقيا، وضعفا في الإيمان.
مشكلتنا مع إيران هي سيادة تلك النظرة الصراعية للعالم، والتي لا ترى فيها إلا أدوات الصراع والقوة، ولا تلحظ فيها مكانا للتعاون والعيش المشترك؛ وإنما فقط الاستتباع والهيمنة والسيطرة؛ وأنها حتى عندما تجد نفسها في موقف ضعف لا يمكن التهرب منه، فإنها فقط تتظاهر بالتراجع، لكنها أبدا لا تقوم بمراجعة حقيقية أصيلة لعقيدتها ونظرتها للعالم.
التعامل مع مثل هذه العقلية شديد الصعوبة والخطورة، فلو أنك قدمت لها التنازلات، فسوف ترى في هذا دليل ضعف يغريها بطلب المزيد، أما لو تصديت لها بقوة وألحقت بها الهزيمة، فإنها لا ترى في هذا سوى انتكاسة مؤقتة، وامتحان للجلد وقوة العزيمة، فالانتصار في عقيدتهم حتمية تاريخية ووعد منتظر، وما عليها إلا التحلي بالبأس والصبر.
الصورة في العالم الواقعي تبدو أكثر تعقيدا مما جرى تقديمه في السطور السابقة، فالحدود بين الداخل والخارج ليست عازلة كالأسوار الصينية، وما يحدث في الخارج يجد طريقه إلى الداخل، والعكس صحيح.
لكن التفكير في التحدي الإيراني بهذه الطريقة المجردة يساعدنا على تحليل الموقف ورسم السياسات الملائمة، وربما كان بإمكاننا تطبيق استراتيجية متدرجة، تسعى لاحتواء العدوان، وصولا لتغيير السياسة العدوانية، وكل ذلك كخطوة نحو تغيير النظام الحاكم في طهران.