"فزاعة الغرب".. كيف طوع بوتين "الوقت" ليملك اليد العليا؟
"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" مقولة قد تكون دافعا لأي شخص في الأوضاع العادية، لكنها تكون مفزعة وفتاكة في أوقات الحروب.
ففي أوقات الحروب والأزمات قد يتحول الوقت بالفعل إلى سلاح قاتل بيد أحد الأطراف في مواجهة الآخر.
وفي الحرب الجارية في أوكرانيا، كان ولا يزال عامل الوقت حاسما، وبعدما كان سيفا سلطه الغرب على رقاب الروس، تمكن الروس من قلب المعادلة وأخضعوا الغرب لفزاعة الوقت بامتياز.
وفي بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا التى بدأت فى ٢٤ شباط/فبراير الماضي، بدا أن الجيش الروسي يسعى إلى تنفيذ عملية قصيرة خاطفة -من حيث الوقت- حتى إن البيانات الرسمية لوزارة الدفاع الروسية التي كانت تصدر يوميا حول تفاصيل المعارك كانت تنشر في المواقع الإخبارية الروسية تحت عنوان "تفاصيل اليوم (رقم) للحرب".
واعتادت روسيا على الضربات المؤلمة السريعة في تنفيذ أهداف خاصة بالوطن (وليس بالحلفاء مثل سوريا مثلا)، فتم تنفيذ حرب الخمسة أيام في جورجيا عام ٢٠٠٨ وانتهت بنجاح باهر للجيش الروسي، كما أن ضم القرم تم أيضا خلال أيام بين فبراير/شباط ومارس/آذار ٢٠١٤.
هذا النهج الروسي ربما أدرك جيدا خطورة الاستمرار في حروب استراتيجية طويلة، إذ تزامن مع انغماس الولايات المتحدة والغرب في حرب طويلة في أفغانستان بدأت في ٢٠٠١ واستمرت عشرين عاما، كما غرقت أيضا واشنطن بالتوازي في العراق على فترات متقطعة لكن طويلة.
حرب طويلة في أوكرانيا؟
لكن مع اندلاع المعارك في أوكرانيا بدا للروس أن المقاومة الأوكرانية المسلحة بعتاد غربي ستعيق إتمام العملية سريعا.
وبعد أكثر من شهر من الحرب لم تتمكن القوات البرية الروسية من السيطرة على المناطق التي تقاتل فيها. وبعد أن كان الجيش الروسي يقاتل على نطاق جغرافى واسع عدل من أهدافه الاستراتيجية للحرب، وبات الهدف هو التركيز فقط على الشرق وتحرير "جمهوريات دونباس".
كان القرار الروسي رد فعل على قيام الغرب بمد أوكرانيا بأسلحة متقدمة وقيامه بشكل واضح بعرقلة المفاوضات بين كييف وموسكو عبر تشجيع أوكرانيا على المضي قدما في قتال جيش روسيا.
وانعكس إدراك موسكو في تصريحات عدد من المسؤولين الروس بأن مد الغرب أوكرانيا بأسلحة قتالية نوعية يهدف لإطالة وقت الحرب، وجعل أوكرانيا تشبه مستنقع أفغانستان بالنسبة للغرب.
ومن ثم جاء الموقف الروسي الجديد من المعارك وهو التركيز فقط على تحرير المناطق الشرقية التي ينطق أغلب سكانها بالروسية؛ دونباس، وإتمام المعركة في أقرب وقت ممكن.
لكن حتى مع تعديل الخطة الروسية استمرت المعارك على مدى طويل في ظل جسر الدعم العسكري الغربي لكييف، وأبدى عدد هام من قادة الغرب استعدادهم لدعم السلطات الأوكرانية في معركة طويلة.
وفي أبريل/نيسان، أكد مستشار الأمن القومي جيك سوليفان أن "الحرب ستطول"، وأن "النزاع الأوكراني الروسي والعمليات القتالية قد تمتد لأشهر وأكثر".
وفي الشهر ذاته، لم يستبعد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أن يطول أمد الحرب في أوكرانيا، ملمحا إلى احتمال ألا تنتهي قبل نهاية عام 2023، أي بعد نحو عام ونصف العام من الآن.
فيما حذر الأمين العام لحلف الأطلسي ينس شتولتنبرغ من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، وقال في تصريح لجريدة ألمانية إنه يجب الاستعداد لحقيقة أن الأمر قد يستغرق سنوات.
فزاعة الغرب
لكن الأمر انقلب، وباتت هذه "المعارك الطويلة" التى يتحدث عنها الغرب "سيفا" على رقبته، استغله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بامتياز ليخلق فزاعة للغرب من الوقت ويذكرهم بعقدة "الحروب الطويلة".
فقد تقاطعت ملفات الغاز والطاقة مع العملية العسكرية فى أوكرانيا، وكثر الحديث عن الأضرار الاقتصادية المؤلمة التي بات الغرب يتحملها نتيجة للعقوبات على موسكو، والتي رفعت من نسب التضخم المستعر بالفعل في عدد من الدول الغربية، والذي بات ينهش في المواطنين وفي الساسة على حد سواء.
وجد الغرب نفسه مع الوقت طرفا في هذه الحرب، يدفع فاتورتها العسكرية والاقتصادية وكذلك السياسية، فقد بلغت المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا أكثر من ٨ مليارات دولار تم إنفاقها بالفعل في شكل أموال ومساعدات.
بالإضافة إلى ٤٠ مليار أقرهم الكونجرس للفترة القادمة، ومع استطلاعات متكررة في عدد من الدول الأوروبية نشرتها صحيفة "جارديان" البريطانية رأى المشاركون أنهم لا يهتمون بعقاب روسيا إن كانوا سيتحملون نتيجته في تكاليف المعيشة.
كما وجد استطلاع لـ"سي إن إن" أن ٣% فقط من الأمريكيين يهتمون بالسياسة الخارجية من الأساس، وأن التركيز كله على تكاليف المعيشة والتضخم.
تبدل الخطاب
وفي تلك الأثناء تغير الخطاب الروسي عن الحرب، فقد ألقت موسكو على لسان مسؤولين عدة الكرة في ملعب الغرب، وقالت إن "الحرب ستطول طالما استمر مد أوكرانيا بالسلاح".
وفي أحدث تصريحات خلال جولته الخارجية الأخيرة، وجه بوتين رسائل هامة للغرب الذي يتعرض لآثار جانبية مؤلمة للعملية العسكرية الروسية، وأصر مرة أخرى على أنه ليس في عجلة من أمره لإنهاء الحرب، قائلا عن القتال "العمل يسير بسلاسة وإيقاع، ليست هناك حاجة للحديث عن التوقيت"، ثم قال مرة أخرى "إنه لن يتراجع".
وقال تحليل أخير لـ"نيويورك تايمز" إن استراتيجية بوتين تبدو الآن هي الانتظار، وتوقع أن تتعثر العزيمة الغربية تحت الضغط الاقتصادي وانهيار حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ويرى المحللون أن بوتين يعتقد أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يضع قيودا على حجم مساعدته لأوكرانيا لتجنب اندلاع حريق أوسع.
ولم يذكر بوتين أوكرانيا أو مواجهته مع الغرب في خطابه الذي دام 8 دقائق في تركمانستان الأربعاء الماضي، وهي علامة أخرى على كيفية توقع عودته إلى العمل كالمعتاد.
وبدلاً من ذلك، تحدث عن الجهود الروسية لتحسين النقل والسياحة في المنطقة ومعالجة التلوث ومصايد الأسماك المستنفدة.
ومع مؤشر على استعداد بوتين للاستمرار في الحرب دون قلق بشأن العقوبات، قالت تقارير إنه خلال قمة السبع الأخيرة التي استضافتها ألمانيا ناشد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي القادة الغرب بـ"بذل الجهود لإنهاء الحرب قبل الشتاء".
وباتت الآن الكرة في ملعب الغرب الذي يدفع فاتورة الحرب بدلا من أوكرانيا، ويهدد دعمه لكييف، بأوضاع اقتصادية صعبة في حال استمرار الحرب لفترة طويلة، ليكون "الوقت" أحد أهم أسلحة روسيا في المعركة.
aXA6IDMuMTM5LjIzNC4xMjQg جزيرة ام اند امز