بعض من الشعر قد يغني عن الكثير من الكلام، تلك واحدةٌ من أفضل جمالياته وعجائبه..
وحسب الناس فإن بشار بن برد كان لا علم له بأزمة العلاقات التي صنعتها قطر لنفسها مع أشقائها الخليجيين وغيرهم من الدول العربية، وهو ما يكاد يعني أنه قدم النصيحة على الأقل، فلم تُدركها المسامع في الدوحة، التي لم تترك أحدا لم تعاتبه، أو بحثت له عن نقائص مفتعلة وكأنها هي ذاتها بلا نقيصة.
قال لهم ابن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك، فإنه
مقارف ذنبٍ مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وتظهر قطر، بحسب إعلامها المريض بالنقد المزيف، وكأنها أبعد ما تكون عن ممارسة انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن سجونها لا تمتلئ بمن حاولوا أن يقولوا قول حق. إلا أن الفضيحة قد طالتها من كل جانب، فقد أصبح النقد المزيف فضيحة قائمة بذاتها. والأدلة تتكاثر ليس في انتقادات ترددها منظمات حقوق الإنسان الدولية فقط، وإنما أيضا محاكم أوروبية تلاحق شتى أنماط الفساد ومذاهبه، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الرياضة.
والفساد ما كان ليُصبح مظهرا، إلا لأنه وجه آخر لعملة الفاسد، ذلك أن ادعاء المنافق بالأخلاقيات المزيفة، كان من الطبيعي أن يُسفر عن انتهاكات وخطايا على أرض الحقيقة. وبينما الناس تُدرك تلك الخطايا، فقد ظلت الدوحة تمارس النكران عما تفعله، لكي تواصل الادعاء المجانب للحقيقة ضد الآخرين.
ولقد جعلت قطر من الغطرسة سلاحا تحارب به نفسها، حتى جاز لابن برد أن يخاطبها بالقول:
إذا الملك الجبار صعر خده
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى
وبالشوك، والخطى حمر ثعالبه
وسيوف المقاطعة العربية ظلت بطبيعة الحال سيوف قول حق، لا سيوف احتراب، فهذا ما لم يكن للأخوة أن يرغبوا به حتى وإن قدروا عليه. لأنهم، إذ يعرفون أن حبل الزيف قصير، فإنهم ما كانوا ليرغبوا بأكثر من أن يبعدوا الشر عنهم، فاختاروا المقاطعة بقرار شجاع. فقالوا، في حدود المعاني الرمزية وحدها:
غدونا له والشمس في خدر أمها
تطالعنا والطل لم يجر ذائبه
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجى الفرار مثالبه
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
بعث الأخوة رسالة في مقاطعة كانت قول حق ضد انتهاك حقوق الجيرة والأخوة، وضد خيانة العهد والالتزامات، فرأى فيها المخادعون موتا، لم يكن إلا من صنع أصابعهم، التي كلما وقعت عهدا، خذلته. فلم يبق إلا أن يرد الذين انجرحوا بالخيانة بالمقاطعة ويجعلوها رموزا للمعاني، لا شيء أكثر منها، فقالوا:
بعثنا لهم موت الفجأة، إننا
بنو الملك خفاق علينا سبائبه
فراحوا فريقاً في الإسار، ومثله
قتيلٌ ومثل لاذ بالبحر هاربه
فما الذي كان يجبر هذا البلد أن ينحو في ذلك النحو، سوى أنه اختار العداوة ضد من لم يعاده، واختار الخيانة ضد من صادقه، واختار افتعال الأزمات واختلاق المشاكل ضد من توقع منه خيرا، فهل كان ذلك إلا من رعونة لا تخفى على من يراقبه؟ حتى قال ابن برد:
وأرعن يغشى الشمس لون حديده
وتخلس أبصار الكماة كتائبه
تغص به الأرض الفضاء إذا غدا
تزاحم أركان الجبال مناكبه
وما كان ذلك كله إلا زائدا عن الحاجة، وبينما ظلت جمرة الأمل تتقد في نفوس الخيرين، بأن يسترد العقل وعيه، إلا أن انتهاك حقوق الأخوة والجيرة ظلت مسلكا، ورافقتها الانتهاكات الخاصة لحقوق الإنسان، لأهل الدار وللعاملين الأجانب فيه، لتجعل من المقاطعة العربية ابتعادا، عما يثير مشاعر الضيق والأذى، وآثر كثيرنا الصبر على أفعاله كي لا نعاتب ما يعاتبه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة