يأتي انعقاد القمة الأوروبية في ظل توقيت بالغ الأهمية من حيث الملفات الملحة والقضايا التي تحتاج حسما.
وعلى رأسها موقف دول الاتحاد من تركيا، والتطورات المتعلقة بالأمن الأوروبي والعلاقات الأوروبية الأمريكية، وإعادة تحديد مهام حلف ناتو إضافة إلى صياغة العلاقات الأوروبية الدولية في إطار إقليمي ودولي، وعلى مستوى الثنائي الأوروبي، ومتعدد الأطراف .
ولا شك أن القمة الأوروبية مطالبة بالتعامل مع التطورات الجارية في إقليم شرق المتوسط تحديدا والنطاقات الإقليمية الأوروبية بمزيد من التدابير والإجراءات الأمنية والاستراتيجية الجادة والمباشرة، ليس فيها أنصاف حلول وأشباه خيارات، خاصة وأن الأتحاد الأوروبي تقاعس في مراحل معينة في التعامل مع بعض التطورات، وأهمها التعامل مع السلوك التركي وهو ما يتطلب رؤية أكثر رشادة وموقفا أكثر وضوحا، خاصة وأن تركيا تتابع وتراقب ما سيجري في الوقت الراهن، وتريد إحباط أي تحرك أوروبي لمواجهة أسلوب التفاعلات التركية مع التطورات الأمنية والاستراتيجية بين اليونان وتركيا وقبرص، إضافة لاستمرار حالة عدم الاستقرار في الإقليم، وهو ما قد يوقع الضرر بالأمن الأوروبي بل وسيؤدي لمزيد من حالة التوتر الدائم.
ستراقب الولايات المتحدة هذه القمة انطلاقا من مناخ جديد سيتشكل في إطار منظومة العلاقات الأوروبية الأمريكية مع تولي الرئيس جو بايدن، والذي سيتبنى برنامجا مختلفا عن إدارة الرئيس ترامب في التعامل مع دول الاتحاد، ومن ثم فليست القضية الرئيسية في محاولات الاتحاد الأوروبي ترميم العلاقات التي تأثرت كثيرا في جوهرها، وإنما بالأساس بناء علاقات أكثر وضوحا تقوم على مبدأ المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، وليس لطرف على حساب طرف آخر، وهو ما سيعمل الاتحاد الأوروبي على الوصول إليه في المدى المنظور، خاصة وأن الولايات المتحدة من مصلحتها أيضا إعادة تقوية تحالفاتها الرئيسية، ولعل إعادة تمتين العلاقات مع الاتحاد الأوروبي ستستبق إعادة بناء العلاقات السياسية والاقتصادية مع مجموعة الآسيان، وعلى رأسها الصين تحديدا .
وسترتبط أهم سيناريوهات التوافق الأمريكي الأوروبي في مرحلة ما بعد القمة الأوروبية بجملة من المعطيات الرئيسية، وأهمها ما يتعلق بما تحمله أجندة الرئيس جو بايدن من عودة للعلاقات الأمريكية لطبيعتها مع الاتحاد الأوروبي، وتوجهات الرئيس بايدن نحو استعادة نمط "المؤسساتية"، وعودة العلاقات مع حلف الناتو، وهو من الملفات الأكثر أهمية لدول الاتحاد الأوروبي، وأخيرا يرتكز على إعادة التموضع الأمريكي في منطقة شرق المتوسط، وتأمين استثمارات شركاتها في مجالات أمن الطاقة، وهو الملف المتخم بالكثير من التفاصيل ليس لدول الاتحاد الأوروبي فحسب، وإنما أيضا للولايات المتحدة، ولروسيا في المقام الأول .
بالتالي فإن القمة الأوروبية ليست قمة عادية بل هي بالفعل قمة مفصلية، وعليها أن تصيغ رؤية أكثر اختلافا عما كانت لاعتبارات متعلقة بالتطورات الهيكلية الجارية أوروبيا وأمريكيا، وتتطلب التعامل معها في النطاق الأوروبي أو الدولي، ومن ذلك التعامل مع منظومة العقوبات على أي طرف شارد، والتي تتركز في فرض عقوبات على السفن العابرة من الأصول المستخدمة في عمليات التنقيب من قبل أي طرف بطريقة غير مشروعة، مع فرض حظر استخدام موانئ ومعدات الاتحاد الأوروبي في مواقع أمنية واستراتيجية محددة على طول السواحل المتوسطية، مع إعادة طرح فرض قيود وضوابط على البنى التحتية المالية والاقتصادية، المرتبطة بأنشطة التنقيب التركي عن الغاز في المناطق البحرية التابعة لليونان، وكذلك البنوك والمصارف والشركات التركية، وأفرعها في دول الاتحاد الأوروبي وفي الخارج، والتلويح بورقتي الاتحاد الجمركي، وأخيرا مفاوضات المسعى التركي للانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو الملف المتعثر منذ سنوات نتيجة للسلوك التركي في النطاق الأوروبي، وفي شرق المتوسط، ومناطق الانتشار في دول أخرى، ومنها ما يجري في ليبيا وسوريا تحديدا، إضافة للممارسات غير المشروعة في العراق، وأمام سواحل قبرص وذلك لمواجهة المخطط التركي لاستعادة القاعدة "الأناضولية" الجديدة.
ولا جدال أن الجانب التركي سيسعى لضرب المواقف الأوروبية، ومحاولة الاستقواء بالجانب الروسي في ظل ما يجري حيث تبدو المصالح واضحة تماما بين موسكو وأنقرة في كثير من ملفات الإقليم، وعلى رأسها ورقة عودة اللاجئين، والتي تمثل هاجسا حقيقيا للأطراف الأوروبية، ويقابل ذلك موقف "الثلاثي الأوروبي" اليونان والنمسا وفرنسا، بقيادة الأخيرة، والذي يدفع بفرض عقوبات على أنقرة بسبب قضية شرق المتوسط وقبرص، والتي لم يكن ممكنا تحقيقها في الشهرين الماضيين في ظل المحادثات اليونانية التركية، وتجدر الإشارة إلى أن ألمانيا ما زالت تعمل جاهدة لمنع انسداد الأفق مع تركيا، ومع ذلك أعلن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، أنهم مستعدون لاستخدام كافة الوسائل لديهم، ما يعزز إمكانية أن تكون فعلا هناك حزمة عقوبات على تركيا.
ولم يتضح بعد مستقبل التحالف عبر الأطلسي، حيث لم يتم تشكيل سياسة الغرب بشأن روسيا بعد، وبالتالي لا ينبغي أن تكون بروكسل وأنقرة في مهب العاصفة منعا لمنح الجانب التركي الفرصة في المناورة وإعادة توظيف المواقف من جديد، فالمطلوب تبني سلوك ألمانيا العقلاني .
لقد أصبح الاتحاد الأوروبي يعرف أن المبادرات التي يقوم بها أردوغان تأتي من أجل تجنب حصوله على أي عقوبات، و أن الاتحاد الأوروبي يمتلك الأوراق والأدوات القوية التي تمكنه من فرض عقوبات على تركيا، وأنه في حالة وصول العقوبات الموقعة على تركيا إلى مداها المؤثر ستكون بمثابة ضربة موجعة لتركيا، وقد تؤدي إلى إقصائها من المشهد السياسي في 2030. ولهذا ويسود المشهد التركي حالة من القلق والترقب لنتائج القمة الأوروبية، بعد أن أعلن الإتحاد الأوروبي أنه مستعد للجوء لفرض عقوبات لمواجهة سلوك أنقرة بسبب استمرار الأعمال الأحادية، وقد أصدرت تركيا إنذارا بحريا لإجراء تدريبات في منطقة بين جزيرتي رودس وكاستيلوريزو اليونانيتين، وسيتزامن الإنذار البحري مع عقد القمة الأوروبية، وهو ما يشير إلى أن كل السيناريوهات قائمة في التعامل مع الحالة التركية .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة