توقيع مذكرات تفاهم بين دولتين أمر محمود، لكنه يختلف عندما يتبين وجود اتفاق أمريكي قطري بوجود أمريكيين في مكتب النائب العام القطري
لقيت الوساطة الكويتية لحل الأزمة القطرية قبولاً واسعاً في مختلف الأوساط الدولية. غير أن السلطة القطرية كان لها موقف مختلف. فقد أعطت للتحركات الغربية اهتماماً أكبر مما أعطت للوساطة الكويتية. وثمة شواهد على أنها سعت إلى إفشال هذه الوساطة منذ البداية، وسعت إلى تدويل الأزمة.
ولا ينفصل هذا الموقف عن منهج حكام الدوحة في إدارة سياستها الخارجية بوجه عام. يقوم هذا المنهج، في أحد أبعاده، على إبداء الاستعداد للعمل في خدمة مصالح الدول الغربية والقوى الإقليمية عبر تدعيم التعاون مع تركيا وإيران، وتوسيع مساحة الاتصالات مع إسرائيل. فعندما يكون الهدف هو الاستحواذ على نفوذ إقليمي، والتطلع إلى القيام بدور أكبر مما يمكن لبلد في حجم قطر الاضطلاع به، يصبح التوجه إلى القوى الدولية والإقليمية التي لديها مصالح كبيرة في المنطقة العربية إحدى أهم وسائل تحقيق الطموحات التي تتجاوز القدرات.
ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تكون العلاقات مع القوى الدولية والإقليمية على حساب الروابط التاريخية والجغرافية والوجدانية مع الدول العربية عموماً، لأنها هي المستهدفة من الدور الذي يطمح حكام الدوحة إلى بناء مقومات النفوذ اللازم له.
وهذا نفس المنهج المُتّبع في إدارة الأزمة، والقفز على الوساطة الكويتية، ورفض قائمة المطالب العربية بدعوى أن فيها مساساً بسيادة قطر! لكن مزاعم السيادة انكشفت على الفور عندما طرح حكام الدوحة على وزير الخارجية الألماني زيجمار جابرييل، خلال زيارته الدوحة في 6 يوليو الماضي، فتح ملفات المنظمات الأجنبية الموجودة على أرضها أمام الاستخبارات الألمانية، وفق ما أعلنه في تصريح تضمن أيضاً قوله إن «قطر وافقت على أن تكون كتاباً مفتوحاً أمام الاستخبارات الألمانية، وتزويدها بكل الإجابات على أية أسئلة حول منظمات أو كيانات أو أشخاص». فهل هناك تخلٍ عن السيادة أكثر من هذا؟ وإذا لم يكن إبداء الاستعداد لإدخال الاستخبارات الألمانية في أحشاء أجهزة الدولة متعارضاً مع السيادة، فما الذي تعنيه هذه السيادة بالنسبة للسلطة القطرية؟
لكن استعداد هذه السلطة للتخلي عن كل ما يتعلق بالسيادة من أجل كسب رضا الغرب وتدويل الأزمة، بدلاً من تلبية مطالب عربية مطروحة في إطار العلاقات التاريخية والمصالح المشتركة وأمن المنطقة، لم يقف عند هذا الحد. فلم تمض أيام حتى وقّعت السلطة القطرية مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة حول مكافحة تمويل الإرهاب خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إلى الدوحة في 11 يوليو الماضي. وسواء أكان حكام الدوحة هم من طلبوا توقيعها في إطار سعيهم لتدويل الأزمة، أم كان تيلرسون هو الذي فرضها عليهم، فالمحصلة واحدة، وهي أنهم لا يذكرون مسألة السيادة إلا عندما يكون عليهم الوفاء بالتزاماتهم تجاه أشقاء عرب.
والحال أن توقيع مذكرات تفاهم في أي مجال أمر محمود في العلاقات الدولية. غير أن الأمر يختلف عندما يتبين أن المذكرة الأمريكية القطرية تتضمن وجود خبراء أمريكيين في مكتب النائب العام القطري طول الوقت. وفي هذه الحالة، نكون إزاء مذكرة تُقوِّض السيادة التي تتذرع بها السلطات القطرية للإفلات من مطالب عربية مطروحة في سياق مختلف يتعلق بخصوصية العلاقات الخليجية، والأطر التي تُنظِّم عمل مجلس التعاون الخليجي.
ولم تُعرف بعد العناصر الباقية في مذكرة التفاهم هذه. لكن حدود مفهوم السيادة لدى السلطات القطرية صارت واضحة بدورها. فقد تبين أنه مفهوم مراوغ يستخدمونه فقط في مواجهة أشقاء هم أول من يحرص على قطر وشعبها وسيادتها ويرغب في مساعدتها.
وهكذا يتضح بجلاء أكثر من ذي قبل مغزى السعي إلى تدويل الأزمة، حتى إذا تطلب ذلك تقديم تنازلات لدول غربية في أمور تتعلق بصميم السيادة الوطنية، سعياً إلى تغيير منهج الوساطة وتحويله من حل الأزمة جذرياً إلى تهدئتها. ومن شأن هذا التحول إطالة أمد الأزمة، أملاً من حكام الدوحة في حدوث استرخاء تدريجي يتيح لهم الاستمرار في سياساتهم معدَّلة شكلياً، والمحافظة على علاقاتهم مع المنظمات الإرهابية التي استثمروا فيها طويلاً. وهم يراهنون، هنا، على أن الدول الغربية لم تُجرب أسلوبهم في الالتفاف على التزاماتهم، وعدم تنفيذ ما يتعهدون به، بخلاف الحال بالنسبة للدول المقاطعة التي جربت هذا الأسلوب وباتت حذرة تجاهه، وحريصة على الحيلولة دون إعادة إنتاجه مجدداً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة