حدث في رمضان.. المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
في يوم 12 رمضان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة كان ثاني عمل يقوم به هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
في يوم 12 من رمضان بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة كان ثاني عمل يقوم به، بعد بناء المسجد هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
في بداية الدعوة إلى الإسلام، تعرض النبي وأصحابه للأذى الشديد والاضطهاد والتعذيب من مشركي مكة لمدة 13 عاماً؛ ما دفع النبي وأصحابه إلى الهجرة من مكة إلى يثرب "المدينة المنورة حالياً"، رغم أن مكة أحب البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعدما خرج المهاجرون من مكة إلى المدينة حدثت لهم عدة مشكلات، منها: الغربة ومفارقة الأهل والمنازل، وتركهم معظم أموالهم في مكة؛ ما أدى إلى تدهور أحوالهم الاقتصادية، بالإضافة إلى الآثار الصحية والبدنية التي حدثت لهم نتيجة الانتقال المفاجئ إلى بيئة أخرى؛ ما أدى إلى ظهور الأمراض في صفوفهم كالحمّى وغيرها.
كل هذه الظروف السيئة شكّلت على المهاجرين ضغوطاً نفسية كبيرة، كان لابد معها من حلها، حتى يستعيدوا كرامتهم ولا يشعرون بأنهم سيكونون عبئاً على الأنصار.
وعندما نزل المسلمون إلى المدينة كان أول عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم هو بناء المسجد، ثم قام بتشريع نظام "المؤاخاة" الذي تم إعلانه يوم 12 رمضان في دار أنس بن مالك رضي الله عنه، والمؤاخاة هي عبارة عن رابطة تجمع بين المهاجرين والأنصار؛ بحيث يتآخى كل مهاجري مع كل أنصاري على حدة، وتقوم هذه المؤاخاة على أساس العقيدة، وتوثيق المحبة والمودة والنصرة والمواساة بالمال والمتاع.
وهذه المؤاخاة أخص من الأخوة العامة بين المؤمنين جميعاً؛ وذلك لأنها أعطت للمتآخيَيْن الحقّ في التوارث دون أن يكون بينهما صلة من قرابة أو رحم، كما في قوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم).
وقد استمر العمل بقضيَّة التوارث زمناً، حتى استطاع المهاجرون أن يألفوا المدينة ويندمجوا في المجتمع، وفتح الله لهم أبواب الخير من غنائم الحرب وغيرها ما أغناهم عن الآخرين، فنسخ الله تعالى العمل بهذا الحكم، وأرجع نظام الإرث إلى ما كان عليه، وذلك في قوله تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله). مع بقاء معاني الأخوة من النصرة وتبادل العطايا وتقديمم المشورة والنصيحة.
آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أحد المهاجرين مع أحد الأنصار؛ حيث آخى بين أبي بكر وخارجة بن زهير، وآخى بين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، وبين الزبير بن العوام وسلامة بن سلامة بن وقش، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين مصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين، وأسماء أخرى بلغت 90 صحابياً.
وهذه المؤاخاة لم تُقِم وزناً لأي اعتبارات قبلية أو فوارق طبقية؛ حيث جمعت بين القوي والضعيف، والغني والفقير، والأبيض والأسود، والحرّ والعبد، وبذلك استطاعت هذه الأخوُّة أن تنتصر على العصبيَّة للقبيلة أو الجنس أو الأرض، لتحلّ محلّها الرابطة الإيمانية والأخوة الدينية.
ومن المواقف المشرقة التي سجلها التاريخ في ظل هذه الأخوة موقف سعد بن الربيع رضي الله عنه مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ حيث قال له سعد: "إني أكثر الأنصار مالاً، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها"، ولكن عبد الرحمن بن عوف شكره وأثنى على كرمه وطلب منه أن يدله على السوق، ولم يمرّ وقتٌ قصير حتى استطاع عبد الرحمن بن عوف أن يكون من أصحاب المال والثراء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إن كثيراً من الأنصار عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقسِّم الأراضي الزراعية بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن تقوم هذه المواساة بدون إضرار بأملاكهم، فأشار عليهم بأن يحتفظوا بأراضيهم مع إشراك إخوانهم المهاجرين في الحصاد، وقد أورث صنيعهم هذا مشاعر الإعجاب في نفوس المهاجرين، حتى إنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، ما رأينا قوماً قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً في كثير منهم، لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله".
ولهذه المواقف العظيمة من الأنصار وتضحياتهم النبية مدحهم الله بقوله: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
كما حفظ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفضل للأنصار، فأثنى عليهم بقوله: "لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً، لسلكت في وادي الأنصار"، وأظهر حبه لهم بقوله: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"، كما دعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح فقال: "اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار، ولذراري الأنصار"، وآثر الجلوس بينهم طيلة حياته فقال: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار".
كل هذه المواقف النبيلة ومظاهر الحب والإخاء بين الصحابة كانت سبباً لقوة المجتمع الإسلامي وتماسكه وانتصاره على المشركين في معظم الحروب، وبهذا نستطيع أن نلمس عظمة هذا الجيل الذي تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم، عندما كانت الأخوة الإيمانية هي الأساس لعلاقاتهم؛ ما يجعلنا بحاجة إلى أن نقف أمام هذا الحدث، نتأمل دروسه، ونستلهم عِبره.